لينبض قلب عقلنا
لا يخفى علينا ماوصلت له المجتمعات من انحدار في مستوى الفكر والوعي والمعرفة بشكل عام، ولكي نكون أكثر دقة فإن ذلك الإنحدار يتمثل في فئة تشكّل الغالبية من أفراد المجتمع والتي يمكن ملاحظتها بشكل واضح جداً، ولا شكّ أيضاً أنَّ المجتمعات نفسها لا تخلو من فئة الأفراد ذوي العقول الراقية الواعية والتي تكون مقابلة للفئة الأولى، إلا أنه من الواضح التفاوت الكمّي والنسبي بين الفئتين والتفوّق الكبير للفئة الأولى، ومن المهم بدايةً الإشارة إلى أن هناك فرق بين (العلم) و(المعرفة)، يقول العلماء إن العلم هو إدراك المعلومات والحقائق بذاتها، أمّا المعرفة هو تأثير المعلومات والحقائق في فكر وعقلية وسلوك الإنسان، لذا فإن ذلك الانحدار لا يعني أن الفئة (المُنحدرة) جاهلة علمياً، بل من الممكن أن تكون وصلت لمراتب عالية من العلم وتفوقت على الكثير من أفراد الفئة الثانية (الراقية) في العلوم والدراسات، إلا أنها على مستوى السعة الفكرية لا تضاهيها أبداً، إذاً يمكن الاعتقاد أنَّ العلوم والشهادات الأكاديمية في عصرنا الراهن ليست مقاييس مُعتمدة لسعة ورقيِّ فكر الإنسان. ويمكننا بكل سهولة ملاحظة بروز ملامح ذلك الانحدار الفكري في هذا العصر الراهن- عصر التكنولوجيا السريعة- وبشكل أدقّ في ساحات تطبيقات وسائل التواصل الاجتماعي، هذا الانحدار الذي وصل أوجّه بالتزامن مع هيمنة هذه التطبيقات على حياة الأفراد والمُجتمعات، فهيَ مع كونها تمثّل نوعاً من التطوّر والتقدم إلا أن استخدامها بالشكل العبثي اللاعقلاني خلَقَ فيها الكثير من الظواهر السيئة والآثار السلبية على الفرد والمجتمع، ومن أبرز مايعكس ذلك -فيما يخص موضوع حديثنا- هو بروز تلك الفئة التي يمكن أن يصعب عليها أن تفرض وجودها في الحياة الواقعية، إلا أنها وجدت في ساحة هذه التطبيقات حُرية مُطلقة لتفرّغ مالم تستطع طرحه في الحياة الواقعية، الفئة التي تُقحم نفسها في أحاديث لا تملك الإحاطة والمعرفة الكافية بمواضيعها وتخصصها، ولا يصعب على أي مستخدم لتلك التطبيقات ملاحظة تفشّي ذلك، إذ أصبح الجميع يتحدث ويُنظّر ويحلل في مختلف المجالات: السياسة، الرياضة، التاريخ.. الخ، وهذا الأمر لا يُّعَد أمراً سلبياً بحد ذاته، بل يكون سلبياً وشكلاً من الفوضى والتخلّف والضحالة الفكرية إذا لم يكن ذلك مُصاحبًا للمعرفة والإحاطة الكافية بالموضوع وجوانبه وعبثاً وتدخُلاً لفرض الذات والوجود ليس إلا! يمكن القول أن هذه التطبيقات سهّلت بروز هذه الفئة، إذ من المُمكن أن يستحي الجاهل من إبراز حقيقة فكره المحدود وجهاً لوجه أمام الناس خلافاً لسهولة ذلك من خلف شاشة الهاتف الذكي، هنا من المهم أن نحدّد بدقة خصائص هؤلاء، فالواضح فيهم أن يكون تدخلهُم ليس لتبادل المنفعة المعرفية والنقاش العلمي، بل المجادلة الحمقاء وتوّهم إثبات الذات بذلك. عموماً.. قد تتعدد وتختلف الدوافع لبروز هذه الحالة عند الأفراد، وتبقى هي المشكلة نفسها.
ومن الطبيعي أنَّ الإنسان العاقل والواعي لا يقبل على نفسه أن يتحدّث بما لا يعرف ويفهم، لا يرضى أن يريق ماء وجهه أمام الناس بسبب كلمة تصدر منه بلا معرفة، العاقل يفكّر دائماً ويدقق في كل كلمة قبل أن يقولها أو يكتبها، وفي ذلك حديثٌ جميل لمولانا أمير الكلام يقول -عليه السلام: "إيّاكَ والكلامَ فيما لا تَعرِفُ طَريقَتَهُ ولا تَعلَمُ حَقيقَتَهُ ؛ فإنّ قَولَكَ يَدُلُّ على عَقلِكَ ، وعِبارَتَكَ تُنْبئُ عَن مَعرِفَتِكَ" ويقول في حديثٍ آخر " كلامُ الرّجُلِ مِيزانُ عَقلِهِ " لو تأملنا هذه الكلمات الرائعة والتي تصف واقعنا حقاً ، لعرفنا كم نحن بحاجة لتطبيقها..! وأما الإنسان الجاهل فإن النظرة السطحية والنزعة العامية تسيطر على عقله ، فلا يستحي أن يُراق ماء وجهه، يُقحِم نفسه في كل حديث وإن لم يكن يملك المعرفة الكافية فيه، لا يحسب حسابًا لما سيقول، إن العقل لا يقبل بهذه الفوضى! بل الأهمُّ من ذلك أن العاقل لا يقبل أن يؤكد فكرةً في عقله قبل أن يتثبّتَ من صحتها، لك أن تتخيّل صورتك وأنت تتحدث أو تحاجج في أمرٍ تجهله، ويعكس حديثك هذا جهلك وضحالة معرفتك بما تتحدث والتي ستظهر بوضوح من خلال حديثك، لماذا يقبل الإنسان ذلك على نفسه! ماهي قيمة ذلك الحديث! هل هو ملزم للدخول في كل نقاش وقضية؟ نحن هنا لا نتحدث من منطلق ثواب الثواب و العقاب، بل من منطلق معرفة الصواب في سلوك الإنسان وأثره على شخصه وفكره، فضلاً عن الصورة الفوضوية التي يشكلها ذلك في المجتمع بشكل عام.
لذا من الضروري السعي لمعرفة كل موضوع نوّد الخوض فيه، إذ أنَّ أحد أدوار المعرفة أنها تؤدي إلى تشكّل الأفكار في العقل، فعندما نواجه قضيةً أو رؤيةً ما، سينتج عن ذلك أمرين، الأمر الأول أنه ستتشكل فكرة مبدئية في العقلِ إما تكون صحيحة أو خاطئة وحتى إن كانت خاطئة إلا أن وجودها في العقل أمر لابد منه إلى أن تتحقق المعرفة الكافية بها ويتمَّ تصحيحها، الأمر الثاني - والذي هو أساس حديثنا- هو ترجمة تلك الفكرة عملياً في السلوك أو طرحها والتحدث بها، والخلل في هذا يكون عندما يستعجل الإنسان في طرح الفكرة قبل أن يحقق المعرفة والإلمام الكافِيَيْنِ بها، وكلما زادت المعرفة والإلمام والبحث في موضوع ما؛ كلما ترسخّت الأفكار والجوانب المتعلقة به في العقل وزادت إحتمالية الوصول لصحتها، ذلك ما سيؤدي إلى القدرة على الحديث والتباحث الموضوعي فيه حتى وإن كانت الأفكار خاطئة إلا أنَّ هناك إحاطة بالموضوع نفسه وستزيد احتمالية تصحيحها من خلال تبادل الأفكار والتباحث، بل وسيتعدى ذلك إلى انعكاس تلك الأفكار في السلوك والقرارات في بعض الجوانب التي تحتاج إلى تطبيق عملي.
كل تلك الأهمية للمعرفة لا يُستثنى منها المجال الديني، بل إن تلك النزعة العامية تكون أشدّ خطراً عندما يتعلّق الأمر بالدين والعقيدة، خصوصاً في ديننا نحن (المسلمين)، لأن الإسلام لدينا ليس مجرد دين فقط، بل منهج حياة! ويمكن رؤية إحدى نتائج تلك النزعة فيما ماوصلنا إليه من تعالي الأصوات المُعارضة والمشككة في بعض أحكام الإسلام وتعاليمه من قِبل فئةٍ كبيرة من الشباب الفاقد للمعرفة الكافية بجوهر مبادئ الإسلام، فهل من المنطقي أن أتخذ رأيًا وفكراً مُخالفاً ومُعارضاً اتجاه أمرٍ ما وأناقشه بتعصّب وأنا ليس لي أدنى معرفة به! من الطبيعي أن تنشأ تساؤلات في العقل حول تلك الأحكام والعقائد وكلما يتعلق بالدين حالها حال أي معلومة أو حقيقة نتعرّض إليها، المطلوب منّا في هذه الحالة البحث والسعي للمعرفة التي تجيب على تلك التساؤلات، لا الاستعجال وتشكيل الأفكار والآراء والتحدث بها كثوابت بلا معرفة كافية!
جديرٌ بنا أن نعي لأنفسنا، أن نصون كرامتنا بزيادة الوعي والمعرفة فيما نريد أن نتحدث به وأن نعمل بما نعلم، الإسلام لا يرضى لنا أن نظهر بمظهر السفهاء والجهلة وذوي الفكر العامي، بل يُريد منّا أن نكون ذوي عقول واعية مفكّرة..
بالمناسبة، يُقال أن القلب هو مركز الإحساسات والإدراك الفعلي في الإنسان، والعقل أيضاً مركز إدراك ولكن إدراك القلب هو أقوى وأصدق وأكثر يقيناً، فعندما يدرك العقل أمراً لا يكون ذلك الإدراك يقيناً تاماً إلا إذا تيّقن منه القلب، وحين يشك العقل في إدراكاته فإنه يعيدها إلى القلب ليحصل على اليقين، ومن ذلك استلهمت عنوان هذا المقال وتصوّرت أن للعقل قلب ينبض ويُحيي العقل وهذا القلب هو "المعرفة"، ذلك لأهمية المعرفة الكبيرة في عقلية وشخصية الإنسان ونشاطه الفكري، فتكون المعرفة بمثابة الضمان لإدراك فاعلية العقل والفكر.
لنجعل قلب عقلنا ينبض؛ ليُحيّي عالمنا بالوعي والفكر، والأهم الأهم أن نسعى لمعرفة إسلامنا أولاً، نعم.. معرفتنا للإسلام هي الأساس الرصين الذي ستُبنى عليه كل المعارف التي نحتاجها في شتى مجالات الحياة.