الجمعة، 20 يوليو 2018

العالم الحديث وصراع الهوية (1) - "حرب تدمير الهويات"

العالم الحديث وصراع الهوية (1)

"حرب تدمير الهويات"


من أبرز خصائص هذا العصر الحديث  صعوبة خلق هُوية شخصية حقيقية للإنسان، وإن من يملك في هذا العصر الراهن هويةً ما، بات يصعب عليه المحافظة عليها في ظل الغزوات الثقافية والفكريةالكبيرة، فتداخل الثقافات والأفكار بين الشعوب والمجتمعات -والتي أفرزتها العولمة- قد مسخت هويات الشعوب والأديان وأصبح العالم يسير نحو دمج كل الهويات في هوية ثقافية وفكرية واحدة، ومن الواضح أن هذه الثقافة هي تلك التي يحيكها خبراء الدول الاستكبارية بدقّة وحرفية كبيرة وخبث في منشآتها الإعلامية الضخمة والتي يُطلق عليها في المجال الإعلامي "مصانع الثقافات"، مع ملاحظة إقصائهم المدروس والمتعمّد للأديان من هذه العملية - أي عملية خلق الهوية المشتركة - إذ أن (الدين أفيون الأمم) بنظرهم.

وما أخطر أن لا يكون للإنسان هوية فكرية مستقلة يختارها بإرادته واختياره يؤسس قواعدها بعقله، ويشيّد أركانها بفكره، ومهما تكُن أسُسها -دينية أو اجتماعية أو قومية وحتى لو كانت خرافية..- إلاأنها تبقى هوية مستقلة اختارها لنفسه بنفسه. والإنسان الفاقد للهوية هو ذلك الإنسان الضعيف المتزلزل الذي لا يملك دعامة فكرية يبني عليها حياته، يسهل اختراقه فكرياً والتلاعب به وتسييره بلاوعي، فتراه دينياً إن واجه موجة التديّن، ومادياً إن عصفت به ريح المادية، ومتنوراً متأثراً ببعض زملاء الدراسة مثلاً، فهو من تلك الفئة التي وصفها أمير الكلام (عليه السلام) : " همجٌ رُعاع، أتباعُ كلناعق، يميلون مع كل ريح". فالهوية هي ذلك الدرع الواقي الذي يقي الإنسان من غزوات الفكر والاستغلال.

الهوية هي ذلك المحور الذي تدور حوله حركة الإنسان العملية وترسم له طريق حياته الذي يسلكه باختياره، وكل فعل يقوم به يكون منبثقاً من تلك الهوية، فهي تتشكل من مجموعة اعتقادات تكون مرجعاً يعرض الإنسان أعماله وعاداته وتقاليده عليها فيكون للإنسان ما يُسمى بـ "أسلوب الحياة"، كل تفاصيل حياته - من علاقات اجتماعية وحياة يومية وحتى اللباس والطعام..- تدخل في نطاق هذا الأسلوب، وإذا ما فُقدت الهوية افتقد الإنسان طريق الحياة الواضح وتاه وتأخر مسيره، فكلما تبع طريقاً ما، جرفته موجة رياح إلى طريق آخر، وهكذا يبقى "في مهب الريح" لا يدري أين ترميه، فلا تبقى له هوية قومية ولا ثقافية ولا عادات ولا تقاليد أصيلة. فالإنسان الديني -مثلاً- تسيّر حياته تلك المعتقدات الدينية فإما موحّداً لله، أو عابداً لصليب عيسى، أو مُشركاً عابداً لبقرة أو شمس..  إلخ من الديانات، والإنسان الماديّ ترسم حياته تلك الرؤى المادية فتصيّره موجوداً لاهثاً وراء المادة وتكون المادة محور حياته، وذلك الرأسمالي يعيش ليكدّس الأموال ويحتكر مصادر الإنتاج ويتلاعب بسوق الاقتصاد لامبالياً بالفقراء..، وهكذا كل رؤية وعقيدة ترسم هوية الإنسان فيكون دينياً أو لا ديني، مادياً رأسمالي أو اشتراكي..إلخ، إلى جانب الثقافات القومية والشعبية التي تشكل هوية الشعوب الظاهرية.

وإذا مانظرنا إلى العالم الآن؛ نرى بوضوح تلاشي الثقافات المختلفة وانصهارها في قالب ثقافي وفكري واحد، وإن بقت أقلية منها فلا ضمانة لبقائها خلال العقود القادمة، فها نحن لا نرى فرقاً جلياً بينالإنسان الشرقي والغربي، المسلم والكافر، الديني والمادي، فكم من مسلمٍ متلبّسٍ فكر الماديّ؟ وكم من عربيٍ ليس له من الثقافة العربية إلا اللغة؟ هكذا يكون الإنسان بلا هوية مستقلة، ديني بفكرٍ مادي،ومسلم شرقي بفكرٍ غربي..إلخ، تتبدل المعتقدات والرؤى فتكون رؤية ضبابية لا تقوم على مرتكزات بيّنة ولا خطة للحياة، وعندما لا يكون هناك خطة ولا منهج ولا طريق واضح فيعني أنه لا يوجد هدف ولا رؤية واضحة مُتّبعة يتطلع إليها الإنسان، هذا مايسير نحوه العالم اليوم! والواقع أنه لا يمكن أن تكون دينياً وفي الوقت ذاته مادياً، لأن أهداف ورؤى الفكر المادي تختلف اختلافاً جوهرياً عن أهداف ورؤى الفكر الديني، فرؤية الدين ترتكز على أن غاية الإنسان حياة أبدية أخروية وعلى مبدأ الثواب والعقاب والنعيم والجحيم الأخروي، بعكس الفكر المادي الذي يرى أن هذه الدنيا والمادة هي الهدف النهائي للإنسان لاغير، وعليهفإن الدين يلقي على الإنسان الدينيّ التزامات سلوكية ترتبط برؤية الدين، كالالتزام بالأحكام الشرعية والعمل بالطاعات وترك المحرمات، فالطاعات توجب الثواب والمحرمات توجب العقاب والعذاب. وهكذا يرتبط أسلوب الحياة والسلوك العملي بالرؤية والفكر، وبذلك يمكن التعرّف والاستدلال على هوية الإنسان من خلال سلوكه وأسلوب حياته، فما دلالة قيام شخص ما بالذهاب إلى المسجد وإقامة الصلاة والصيام وإيتاء الزكاة والالتزام بالأحكام الشرعية الإسلامية وعادات وتراث وطريقة الإسلام؟ هل نستدل بأنه ماديّ؟ أو ليبرالي أو شيوعي ؟ العقل سيقول أنه مُسلم بلا شك، هذا هو الأمر الطبيعي، وأيضاً كل من ليس له أعمال تعبدية فيمكن القول أنه لا يؤمن بالأديان. ولكن العجيب أن نرى من يصلي ويصوم ويتعبد بالظاهر ولكنه ماديّ النزعة وغربي الثقافة ومتحرر الفكر، نراه بهذه الأفكار المضادة تماماً للفكر الديني والإسلامي بالأخص، كما أن العقل يتعجّب لو رأى مادياً أو ليبرالياً متحرراً يتعبّد بكل خشوع وانقطاع لله في ليلة القدر! وبالنسبة للمجتمع والإنسان الإسلامي، أليس هذا مانراه في مجتمعاتنا الآن؟ انمسخت الهوية الإسلامية الأصيلة، الهوية التي أسسها ذلك المبعوث العظيم الذي هزّت رسالته العالم وفتح للبشرية باب النوروالفهم والهدى وهدم أركان الضلالة والجهل.

ولهذا، إذا أردنا -نحن المُسلمون خصوصاً- أن نبقى أعزّةً كما أراد لنا الله،  فبناء الهوية الفكرية الإسلامية هو الضمانة لذلك، فالإسلام هو الدين والفكر الوحيد الذي لا يزال مُحافظاً على أسسه وأركانه رغم الهجمات الفكرية والثقافية العنيفة والمستمرة، ورغم انحراف الجزء الأعظم من المُسلمين عن خط الفكر الإسلامي الرصين، إلا أنه لا زال قوة عالمية عظمى لا يُستهان بها بل ويُحسب لها ألف حساب، مركز هذه القوة هي تلك الطائفة التي لم تتخلى عن هويتها الإسلامية الأصيلة، القوة التي تكمن في كل فرد مُسلم لم يهدم هويته ويبِع عقله وكيانه بالثمن البخس بلا وعي، وبالتحديد فالتشيّع هو المذهب الذي حافظ على هذه الهوية ولازال صامداً ثابتاً كالجبل لا يتزلزل. فكيف بنا ونحن شباب الإسلام والتشيّع نسلّم عقلونا وأفكارنا لدعايات الغرب المادي وإعلامه، نتشرب أفكاره وأسلوب حياته ولغته ولباسه وانحلاله الأخلاقي ! نضرب بكل عاداتنا المحافِظة والرزينة عرض الحائط بدعوى الانفتاح والتمدّن والتحضّر! فنحن كمُسلمين نعتقد بأن هذا الدين هو دين إلهي وهو أسلوب الحياة الكامل الذي تنبثق منه الأفكار والعادات والتقاليد التي تحفظ إنسانية الإنسان من التلوث والانحلال والتسافل {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً}، أسلوب الحياة الذي تُبنى عليه هوية الإنسان والمجتمع، ومثال ذلك مانراه من تبادل أدوار بين الرجل والمرأة، ومحاولات زرع فكرة عدم عدالة الإسلام في المساواة بين الرجل والمرأة، وخلق فكرة عدم تعارض اهتمامات الجنسين، فاهتمامات الرجل أصبحت اليوم على قائمة الاهتمامات الأولية للمرأة والعكس! في حين أن الفكر الإسلامي هدفه المحافظة على كينونة كل جنس بتنظيم اهتمامات وتوجّهات تتناسب وفطرة وغريزة كل منهما، وها نحن نرى الفتاة اليافعة الآن أول الجالسين أمام التلفاز لمتابعة مباراة كرة القدم "الرجالية" وتفاعلها الحماسي الكبير مع كل حركة من اللاعب وتشجيعه في برامج التواصل، وفي الجانب الآخر ذلك الشباب يتابع حياة تلك الفنانة المشهورة في جميع حساباته فيالتواصل الاجتماعي، أين ذهبت وماذا عملت..! ناهيك عن الانقياد الأعمى خلف مظاهر التبرج والترف والانحلال الأخلاقي الذي يجاهر به مشاهير التواصل الاجتماعي، والارتباط العميق مع شخصيات الدراما -الخليجية منها والتركية مثلا- والتأثر بها روحياً وسلوكياً ومظهرياً وثقافياً.. فلا يبقى من الثقافة الأصيلة شيء إلى أن تتحول الهوية الفكرية إلى هوية جاهلة مُقلِّدة ومنقادة انقياد أعمى بلا وعي ولا استقلال، وتُبنى تلك الهوية على أسس الجهل والانحراف والضلال والذي يمثلها ذلك الإعلام أو تلك الشخصيات أو كل ما دون الدين، والتي تكون في مقابل أسس الوعي والهدى والنور الذي يمثلها الدين الإلهي وأهله..

من هنا يبدأ الضياع، عندما لا تكون لك هوية -واضحة مستقلة ثابتة مبنية على أسس رصينة مُحكمة- تتخلى عن ثقافتك وفكرك ومعتقداتك، فتكون ذلك الضعيف اللاواعي الذي تتلاعب به أمواج الجهل والسذاجة فلا يكون لك كيان إنساني مستقل، وإذا ماغرقنا نحن الإسلاميون في طوفان العولمة والانصهار في الفكر المضاد لثقافة الإسلام، فسنتخلى عن عقائد الدين الحقّة بسهولة وبلا إدراك، ولن نكون أولئك الخلفاء الذين جعلهم الله في الأرض ليقيموا المجتمع الإلهي الفاضل!

{ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً }