الصورة ليست واضحة
تمر السنين ويوماً بعد يوم نرى ازدياد ابتعاد الأجيال عن الإسلام، وبعد أكثر من 1400 عام من بزوغ فجر دين السموّ والجمال والكمال الإنساني، دين بناء الإنسان والتحرر من أغلال النفس والمادة ، ها نحن ونصل لعصرٍ لم يبقى فيه من الإسلام إلا اسمه، انطمست ملامح صورته الحقيقية، أصبحت الصورة ليست واضحة، انعدمت الثقافة الإسلامية في مجتمعاتنا، وحلّت مكانها الثقافة الغربية الملوثة، تفشّى الانحراف الفكري والعقائدي بين شبابنا. تعددت أسباب هذا الانحراف، إلا أن أهمها فهو ضعف المعرفة بالإسلام إذا لم تكُن معدومة واقعاً، فضعف المعرفة الدين يعني ضعف الإيمان، وضعف الإيمان هو المؤدي للانحراف والنفور من الدين، هذا النفور المتفشّي في مجتمعاتنا في العصر الراهن.
إن هذه المعرفة تشكّل أساس بناء هوية الإنسان المسلم، عندما ضعُف هذا الأساس، سهُل هدم تلك الهوية التي أراد بها الإسلام الكرامة والعزّة للإنسان، واستطاع العدو الغربي استغلال هذه الثغرة الفادحة في اختراق المجتمع الإسلامي وبث سموم أفكاره من خلال الغزو الثقافي الناعم، واستهدافه لفئة الشباب خصوصاً وبشكل مُخطّط ومدروس، أما من كان مُتحصّنًا بالمعرفة الكافية والإيمان بدينه فلن تتلبّسه التبعية العمياء ولن تستطيع أكبر قوة شيطانية أن تسلبه هويته الأصيلة واستقلاله الذاتي والفكري.
أما عوامل ضعف هذه المعرفة فهي كثيرة ومُتجددة مع تقدم الزمن، ولعلّ أبرزها عملية فصل أفراد المجتمع الإسلامي عن منابع المعرفة الدينية الأصيلة المتمثلة بالقرآن الكريم والعترة الهادية (عليهم السلام)، ومثال لذلك ما كان في عصر الأئمة (عليهم السلام) حيث كان سعيّ الغاصبين آنذاك عزل المجتمع الإسلامي عنهم -عليهم السلام- و عن علومهم ومعارفهم بمختلف الأساليب التضييقية والإعلامية الماكرة (إلا أنهم فشلوا في ذلك نوعاً ما)، أما في عصرنا الحالي فهذه العملية تتمثّل في إضعاف العلاقة الروحية بين المجتمع وعُلماء الدين بصفتهم حمَلة لواء الشريعة وحُماة العقيدة وورثة الأنبياء ونوّاب الإمام المعصوم(ع) في عصر الغيبة، وهم من يتصّدون لمهمة الهداية والتربية ونشر الدين والمحافظة على مبادئه الأصيلة، فهم بهذه الوظائف امتداد لذلك الخطّ الربّاني، ويكون ذلك عبر تشويه صورتهم بمختلف الأساليب، (والحديث عن موضوع العلماء له أهمية كبيرة، نخصص له مقال قادم خاص إن شاء الله)، إذن ضعف ارتباط المجتمع بمصادر المعرفة الأصيلة وامتدادها بشكل طبيعي يؤدي الى ضعف المعرفة والإيمان.
ولذلك إن أردنا معرفة الدين علينا التوجه لمنابعه الأصيلة، دين الإسلام الذي هو منهج حياة كما أشرنا سابقاً، فنحن نحتاج إليه ليرشدنا في كل خطوة نخطوها في حياتنا، فعلوم الإسلام ومعارفه وعلوم كل الحياة نجدها أولاً عند آل بيت محمد (ص)، وكما جاء في الرواية عن الإمام الباقر (ع): "شرّقا وغرّبا فلا تجدان علماً صحيحاً إلا شيئاً خرج من عندنا أهل البيت" . وهذه مآتمنا ومساجدنا هي مدارس لعلومهم (ع)، وما مداد المرجعية الدينية الشيعية إلا اغتراف من نبعهم الصافي، لذا فسبيلنا الوحيد لمعرفة الإسلام هو علم أهل البيت (ع)، ومايقدمه العلماء من تعريف وتبيان ونقل لعلومهم عليهم السلام.
ونظراً لعدم التوجه لتلك المعارف، فليس مستغربًا أن نرى الشباب ينفرون من الدين ويشككون في أحكامه وتعاليمه، لأن ذلك ينتج عدم وضوح صورة الإسلام، والواقع أن الكثير من الشباب في سبيل المعرفة والتثقف يتوجه لمن ليس لهم أي صلة بالإسلام، بل ممن يحاربون التدين من أصحاب الأفكار المنحرفة المُبطّنة، فنرى الشباب بلا وعيٍ يقرأون ويؤمنون بأقوال واطروحات مفكّري وفلاسفة الغرب الذين يجدون عندهم مايوافق أهوائهم النفسية المحدودة، أمثال اولئك حتى لو كانوا يقدمون مانعتقده من القيّم الإنسانية والأخلاقيات، إلا أننا لا نحتاج لهم لتعليمنا القيّم والأخلاق والمبادئ، فلدى الإسلام مايكفي من المفكرين الذين يرشدونا للقيم الفطرية النقية، اضافة إلى أن أفكار أولئك ليست صافية وغالباً ماتصطدم بشكل مباشر أو غير مباشر مع مبادئ وقيم الإسلام، كما أن مفكّري الغرب غالباً مايطرحون مصطلحات جذّابة محرَّفة المعنى تجذب عقول الشباب مثل (التحضّر،العصرية، العقلية المثقفة، التنوّر..الخ) ونظراً للتضاد القيمي الكبير بين الفكر الغربي والفكر الإسلامي، فمن الطبيعي أن من يقرأ أفكارهم و يؤمنٌ بها سيصطدم بأفكار علماء ومُفكري الإسلام، يعني أنه سيصطدم مع الإسلام واقعاً! ليس هذا وحسب، بل من المهم الإشارة أيضًا إلى الحذر حتى من بعض المفكرين العرب والمُسلمين، فلم يسلم الإسلام من السهام الخفية من بعض (المُثقفين) الذين يضربون الدين بالدين، ويحرفون المبادئ الأصيلة، ويدعون بشكلٍ أو آخر إلى التحرر من الدين وماشابه من الأفكار المنحرفة، ناهيك عن تعرضنا وبشكل مستمر ومتكرر لملايين الرسائل المُبطّنة من خلال الإعلام الغربي -(هوليوود) مثلا، والإعلام الاجتماعي الحديث ومشاهير الإعلام من الغرب والخليج العربي أيضاً (شخصيات السوشيال الميديا/الفنّانين..الخ). بناءً على ذلك فإن أي فكرة منحرفة نأخذها من تلك المصادر، ستوجِد لدينا قناعات مخالفة أو شكوك في صلاحية مبادئ وقيّم الإسلام، لأنه إمّا أن نؤمن بصلاحية القيم اللاإسلامية أو صلاحية القيم الإسلاميّة، ومن هنا يحصل الشك والانحراف والنفور من الدين، خصوصاً مع طبيعة النفس الإنسانية الأمّارة بالسوء في اتباعها لما تهوى !
وهُنا أنقل هذه القَول الجميل لفيلسوف الإسلام الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي، يقول (دامت بركاته): " إنّ الخُبراء في الدين والذين باستطاعهم تعريف الناس بالإسلام الأصيل، إنمّا يمكن العثور عليهم في وسط علماء الدين، فالإسلام الأصيل لا يؤخذ من (جامعة هارفارد)".
والحقيقة إن شمولية الإسلام لم تدع أي مجال في الحياة لم تتطرق إليه وتنظمه بتعاليمه، ولم يجعل المجتمع الإسلامي يحتاج لأي منهج آخر، فبعد القرآن الكريم وأحاديث أهل البيت (ع)، قدّم علماء ومُفكري الإسلام مؤلفات عظيمة في شتى المجالات التي تُرشد الإنسان لطريق الهداية والإنسانية على ضوء الإسلام، فنحن نُهمل هؤلاء العظماء الذين ساهموا بفكرهم الإسلامي السليم بتقديم أطروحات يُضرب بها المثل في عراقة فريدة من نوعها ونتجه لغيرهم!
ونظراً لابتعاد العالم أجمع عن الإسلام وتعاليمه، ها هو العالم يشهد تراجع وتهاوي حياة الإنسان، ذلك بسبب عدم صلاحية كل المناهج البشرية التي تنتهجها مجتمعات العالم، ولا صلاح للإنسان والعالم إلا بالمنهج الربّاني الحكيم، هذا المنهج هو الذي يُحقق كل ماينشده الإنسان من طمأنينة وراحة وسعادة حقيقية تتمثل في الحياة الطيبة والعلاقات الاجتماعية السليمة، فعلى المستوى الإنساني فتعاليم وأحكام الإسلام حفظت للأنسان كرامته ورفضت كافة أشكال العبث والانحلال الأخلاقي ووجّهت الإنسان للسيطرة على أهواء النفس وحارب الطمع والأنانية ونظّم العلاقات الاجتماعية وفق ذلك، ومنها تنظيم علاقات المجتمع واقتصاده وتوزيع الثروات بما يؤدي لرخاء المجتمع وانتفاع أفراده وتوفير العيش الكريم وإلغاء كل أشكال الاستغلال والجشع- هذا في الجانب الاقتصادي، ومنها التعاليم التي تسمو بالإنسان والمجتمع بتحقيق العدالة والمساواة والتحرر والاستغلال والعبودية، إضافة إلى ترسيخ الأخلاق الحميدة في الفرد والمجتمع- وهذا في الجانب الاجتماعي، هذه بعض الأمثلة على رؤى وتعاليم الإسلام التابعة لمبادئه الأساسية، ولك أن تقارنها بأي رؤية منهجية أخرى وتترك الحكم لعقلك! هل هناك منهج غير الإسلام أعطى الإنسان هذا القدر من الكرامة ونظّم الحياة بأفضل من هذه الأنظمة؟ هذا هو الإسلام الدين السماوي السامي، منهج يسمو بالإنسان، ولو أن أي فرد آمن به وسار ملتزما بأحكامه مؤمناً برؤيته، فسيرى أن استقامة الحياة لا تكون إلا في ظله، ولو انتهج الفكر الإسلامي الأصيل، فسيشعر بطفرة كبيرة في فكره وثقافته وعقليته وسلوكه، وإن خط الإسلام رقى بإنسانيته وروحه وعقله، ستنفتح له آفاق الإبداع والنشاط الفكري، ستتغير نظرته للحياة تماماً، سيشعر وكأنه كان يعيش بعقلٍ آخر سطحيّ جداً ومحدود! نعم هذا ماستشعر به حقّاً لأن هذه التعاليم نابعة من عمق الفطرة الإنسانية وهي توجيه حكيم من أحكم الحاكمين الذي نفخ فيك من روحه.
فضعف المعرفة يعني تأثر فكرنا بأبسط الرسائل التي نواجهها في حياتنا اليومية، البعض ربما يتأثر من خلال تغريدة منحرفة واحدة على تطبيق (تويتر)! ونظراً لضعف القاعدة الفكرية والعقائدية فليس بمُستغرب أن يتأثر الشاب -ولو بشكل غير مباشر- بنمط حياة لاعب كرة قدم، والفتاة بمشهورات السوشيال الميديا، ، خصوصاً عندما يرون تلك السعادة الوهمية في الحياة غير الحقيقة لتلك الشخصيات.
إذن كل انحرافنا ونفورنا عن الإسلام هو نتيجة عدم معرفته والتي تؤدي إلى سهولة التأثير في نظرتنا إليه وتحويل مقاييس الحُسن إلى مقايّيس قبح والعكس، ويؤدي ذلك إلى ذرّ الرماد في أفق بصيرتنا فتكون الصورة ليست واضحة..!
فعندما يُنظر إلى الدين أنه رجعية وتخلّف، يعني أن الصورة ليست واضحة!
عندما يُرى في الحجاب تقييد، وفي الزينة والسفور تطور وتحرر، يعني أن الصورة ليست واضحة!
عندما يُعتبر المُتديّن مُتحجّر ومُتعصب، يعني أن الصورة ليست واضحة!
عندما يُرى في الإسلام مانعٌ للتقدم والتطور، يعني أن الصورة ليست واضحة!
عندما نعتبر عُلماء الدين العاملين مُستغلّين ومُنافقين ويُريدون تسيّير المجتمع وفق أهوائهم، يعني أن الصورة ليست واضحة!
عندما نعيش وكل همّنا إشباع رغباتنا النفسية والمادية، عندما نرى قيمتنا في كمالياتنا وملبسنا الثمين ومظهرنا العصري يعني أن الصورة ليست واضحة!
إذن؟
لنجعل معرفة ديننا أولوية وأهمية في حياتنا..
لماذا؟
لتتّضح الصورة ونسيّر حياتنه بالنظام الأحكم.. لنعرف قدر أنفسنا، للسمو، للارتقاء، للإنسانية..
يقول السيد القائد الخامنئي (دامت بركاته) : "لا شكّ في أن العلم الديني من الأمور التي تقع في صدر قائمة العلوم، نحنُ بحاجة إلى الاطلاع على..الدين والمعارف الدينية..علينا أن نفهم الدين"
وتيّقن أيها العزيز.. بسيرك في خطّ الإسلام ستذوق في الحياة الحلاوة الي لم تذقها في كل عمرك!
وستعيش الراحة التي طالما بحثت عنها في فوضى هذه الدنيا، لأن الإسلام نظام الخالق الحكيم، نظام الوجود ونظام الفطرة الإنسانية السليمة!
أخوتي وأخواتي.. فلنذب في الإسلام، ولنحيا الإسلام منهجاً يحقق لنا الحرية المعنوية والطمأنينة الروحية والاستقلال الفكري، لنحقق به الغايات السماوية التي أرادها لنا الله عزّ وجل ورسوله أهل بيته (عليهم السلام).
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق