الجمعة، 9 فبراير 2018

"ليس هذا هو الإنسان الحقيقي"

ليس هذا هو الإنسان الحقيقي!


من أكبر السلبيات المؤثرة في فكر وعقلية شبابنا في هذا الزمن هو افتقاره للجدّية، وسيطرة اللامبالاة والهزلية والعبث على عقله وسلوكه، مما يؤدي إلى سطحية الفكر وبروز النزعة العامية في عقليته.
فهذا العالم أصبحَ يسير بنحوٍ تسافلي خطير، رغم كل التطور الهائل والسريع فيه، إلا أنه من الواضح أن العلاقة عكسية بين هذا التطور وبين الإنسان، كلما تقدّم هذا التطور، كلما تراجعت وتسافلت إنسانية الإنسان!
والمقصود من الجديّة هُنا ليس المعنى الدارج المتعارف عليه، ليس عدم المزاح والضحك مثلاً، ليس الجدية في الحديث، ليس الجدية في السلوكيات اليومية في الحياة الاجتماعية، ليس القصد أن يعيش الإنسان طيلة يومه مُقابلاً الكتب ومُنهمكاً في طلب العلم، أو أن يكون عبوساً لا يتلطّف في أحاديثه مع الناس، بل المقصود من الجديّة أن يكون الإنسان جادًا في نظرته إلى الحقائق المصيرية في حياته، أن يكون لمعرفته تلك الحقائق أهميّة وأولوّية في حياته، ويكون توجهه لهذه الحقائق هو مُحرك حياته في السلوك والحديث والفكر.
وأول تلك الحقائق مايرتبط بوجود الإنسان، ماهي حقيقتي؟ ماهو هدف وجودي في هذا الوجود؟ كيف وُجدت ومن الذي أوجدني؟
ومن هُنا يبدأ طريق الإنسان في البحث عن نفسه ومعرفة قيمته، فنتيجة معرفة نفسه هي معرفة الله جل جلاله، يقول أمير المؤمنين (ع) : " من عرف نفسه فقد عرف ربه "، وبهذا يمضي بجديته ساعيًا للبحث عن كل الحقائق المتصلة بوجوده، فنحن البشر المخلوق الوحيد في هذا الكون المُتميز بحيازته للعقل، أليس من العبث أن أعيش في هذه الدنيا وتمضي السنين ثُم أموت ولا أعرف ماهي حقيقة وجودي! من أين أتيت وإلى أين مصيري وماهو دوري في هذا الوجود! ماهو مستقبل هذه الحياة! وهذا ما يُشير إليه أيضاً أمير المؤمنين (ع) في قوله " رحم الله امرأ عرف من أين وفي أين وإلى أين". فالحقيقة أنّنا عندما نجهل هذه الأمور فإن حياتنا وعدمها واحد لأنها حياة بلا قيمة إذ أني لا أعرف قيمة نفسي، ولا اختلاف في قيمة وجودنا و وجود الحيوان، عندما لا نستخدم هذا العقل في سبيل معرفة حقيقة هذا الوجود -ومن ثم السير في حياتنا بناء على تلك المعرفة- فإننا كالحيوان، فهو يعيش بلا عقل، يولد ويعيش ، يأكل وينام ويتكاثر ثم يموت، ونحن نولَد ونعيش نأكل وننام ونتكاثر، والفارق الممكن هو أننا نستخدم عقلنا لكن هدفية استخدام عقلنا هي نفسها تلك الأمور التي نشترك فيها مع الحيوان، نسخّر كل قوانا العقلية لإشباع رغباتنا وتحقيق أهداف الدنيا المادية، كطلب العلم للحصول على الشهادة ثم الوظيفة والراتب الكبير.. الخ، ومهما ترقينا أكثر فإن كل أهدافنا وإن عظُمَت ستبقى محدودة مادامت مرتبطة بالمحدود فقط كالدنيا، لكن معرفة حقيقة النفس وهذا الوجود وصانعه المبدع ومعرفة مابعد هذه الحياة هي المعارف المصيرية والمؤثرة في وجودك، ماهي قيمة الإنسان إذا عاش جاهلا لحقيقة وجوده!
تلك الجديّة هي المطلوبة في نفس الإنسان ليجد ذاته ويعرف قيمة وجوده، لا يمكن للإنسان أن يرقى بعقله وفكره وإنسانيته وهو فاقد للجدية في السعي لمعرفة مثل هذه الحقائق، أمّا نحن شيعة أهل بيت محمد (ص) كيف نقبل على أنفسنا أن نكون أهل غفلة وعبث! وماهو مبرر ذلك؟ هل قصّر أئمتنا (ع) في إرشادنا ؟ معاذ الله! هل نفتقد لمن يدلنا الطريق ؟ ماهو شعورنا وإمام زماننا - عجل الله فرجه - غائب ينتظر تمهيد شيعته، فيرانا ونحن غارقين في العبث واللهو! أليس التمهيد إلى ظهوره يحتاج لجدية حقيقية ؟ ماهو موقفنا أمام الله يوم وقوفنا أمامه يوم تبلوْ كل نفس ما أسلفت! 
الجدية أن نكون مُوالين بحقّ، أن نكون جادين في معرفة ديننا ورسولنا وأوليائنا -عليهم الصلاة والسلام- أن نسعى بكل همّة وصدق أن نعرف إمام زماننا (عج)، أن نكون جادّين بالإرتباط به والتقرب إليه والتمهيد الصادق لظهوره (فدته الأنفس)، الجديّة أن نسعى لمعرفة تكليفنا اتجاه ديننا وإمامنا، أن نتحمّل الأمانة الشريفة التي حمّلنا الله جل جلاله إياها وأعطانا دور الخلافة على الأرض، أن نتحمل مسؤوليتنا اتجاه مجتمعنا واتجاه كل هذا العالم واتجاه إمامنا الغائب (أرواحنا لمقدمه الفداء)،  على عاتقنا مسؤولية عظيمة، هذا العالم غارق في الفساد، انعدمت القيَم الإنسانية ونخرت قيَم الدنيا الهابطة في مجتمعاتنا، الجديّة المطلوبة أن نستشعر وجود الله، أن نعيش همّ الآخرة، أن نكون جادّين في طلب قرب الله ورضاه ومحاسبة النفس وتزكيتها، أن يكون كل سعينا وعيشنا وكل حياتنا في السير إلى الله، حيث أنّ الله هو نور السماوات والأرض وهو الكمال المُطلق وقربه غاية الوجود.. وعندما نكون كذلك ستكون كل حياتنا حياة هادفة، لن نقبل على أنفسنا اللهو واللغو والعبث.
عندما نرى كل هذا العالم غارق في العبث واللهو، فإن كل تلك البشرية لا تعرف الإسلام، أما نحنُ أبناء الإسلام، أبناء نبي الرحمة (ص)، أبناء أمير الموحدين (ع)، أبناء الطاهرة سيدتنا الزهراء(ع)، نحن أبناء الولاية العلوية، أبناء المساجد والمآتم، ماعذر غفلتنا ونحن شيعة مدرسة النور الربّانية! 
أليس من المؤسف أن نصل لهذا الوضع الأليم، عندما نرى جديّة شبابنا في توافه هذه الدنيا وإعطاء الأهمية لما ليس له أهمية! فها نحن نرى كيف أن معرفة شبابنا بلاعبي كرة القدم مثلاً معرفة واسعة، لاعجب أن يعرف الشاب أسماء اللاعبين وأسماء أبنائهم وحتى أسماء زوجاتهم وكل تفاصيل حياتهم، أو مانراه من متابعة واهتمام كبير لمشاهير "سناب جات"، كم هو مؤسف أن يكون حديث شبابنا عن زواج وطلاق تلك المشهورة، وحياة ذلك الفنان وأين ذهب وماذا أكل وماذا صنع، في حين يجهلون المعارف التي تسمو بإنسانيتهم وفكرهم، والحقائق المؤثرة في مستقبل الإنسان الغامض..
 لا يخفى على أي عاقل ماوصلت إليه عقلية شبابنا من الجنسين، ولا شك أن افتقار المجتمع للجديّة الفكرية والعقلية أدّت لمثل هذا الانحدار الفكري، الجديّة التي هي حالة من التفكّر المُستمر في الحياة في سبيل إعداد الإنسان نفسه لخوض مستقبل مجهول، وعكسها غفلة الإنسان عن إنسانيته وحقيقة وجوده ومصيره، فلا يمكن للإنسان الذي يعرف قيمة نفسه وحقيقة وجوده أن يشغل نفسه بتوافه هذا الزمن، أو أن يكون جلّ حديثه لغو وسلوكه عبث وحياته لهو، .. ليس هذا هو الإنسان الحقيقي!.. إن عقلية اللامبُالاة والهزلية والعبث واللغو لا تصنع إنساناً، بل تدّمر حقيقة الإنسان!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق