الإسلام دين الأمل
بسم الله الرحمن الرحيم
أودع الله عز وجل في فطرة الإنسان كل مقومات الحياة الطيبة العقلية ابتداءً من المعنويات كالعقل والوجدان والمشاعر والأحاسيس وهي أساس حياة الروح، إضافة إلى المقوّمات المادية التي تضمن استمرار الحياة الجسدية المادية أو كما تسمى (الحياة الحيوانية)، ومقوماتها البدن والغرائز المادية، كل تلك المقومات والنِعم هي وسائل أوجدها الله في الإنسان، يستخدمها ليبلغ الغاية السامية والكمال.
إلا أن هناك نعمة خفيّة نستطيع التيقّن أنه لولا وجودها لما أمكن للحياة أن تستمر حتى مع وجود المقوّمات الأساسية الأخرى، تلك هي نعمة (الأمل)، الذي هو ماء الحياة، وهو الذي يدفع الإنسان لكل تقدّم وتكامل وخطوة نحو الحياة الكمالية، الأمل الذي يجعل الأم تصبر على معاناة تسعة أشهر وآلام الولادة الفظيعة على أمل أن تقرّ عينها بالمولود، الأمل الذي يشحذ همم البشر في السير إلى تحقيق أمانيهم وأهدافهم بطلب العلم والعمل والسهر والتخطيط..الخ، الأمل الذي يجعل من كل مشقة وتعب -في سبيل الغاية- حُلوًا باردًا على القلب.
ولكن هل كل أمل هو أمل حقيقي وكمالي؟ هل كل أمل محمودٌ وحسَن؟ الجواب بالنفي قطعًا، الأمل مثله مثل أيّ شيء يمكن أن يكون في طريق الخير والكمال كما يمكن أن ينحدر بالإنسان إلى أسفل سافلين من خلال العمل السيء والمنكرات والشرور وغيرها. المطلوب منا هو معرفة الأمل الحقيقي الصادق، وتشخصيه تشخيصًا دقيقًا لكي لا نُخطئ الطريق ونكون من الأخسرين أعمالًا {الذين ضلّ سعيهم في الحياة الدُنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا}. ولا يمكن ذلك إلا بمعرفة هدف الوجود والخلقة ومآل الإنسان، وذلك ماعرّفنا به الإسلام وبيّنه تمام البيان، وكل ماعلينا هو أن نسعى ونبحث لتتضح لنا الصورة أكثر ونعرف حقيقة هدف وجود كل هذا الوجود.
إن الآمالَ درجات ومقامات وحقائق، وكل أمل يمكن تقيّيمه بدرجة ونوعية وقيمة الهدف المرتبط به، كلما كان الهدف أسمى كان الأمل ساميًا مثله والعكس صحيح، فالأمل المرتبط بإشباع لذة الطعام أمل بقيمة هذا الهدف المادي الحيواني، والأمل المرتبط بالوصول للجاه والمقام الدنيوي والمال أملٌ أجوَف لا قيمة حقيقية له؛ إذ أن تلك الأهداف في أصلها ليست حقيقيةً بالمقارنة مع غاية الوجود الإنساني، ومن جانب آخر يرتبط الأمل كذلك بالأهداف المعنوية العقلية في العلم والمعرفة والعمل كتحقيق المراتب العلمية العالية وزيادة المعرفة النافعة على المستوى الشخصي، والتقدم العلمي والحضاري الثقافي والحقوقي وعلى المستوى الإجتماعي والمساهمة بذلك في خدمة المجتمع البشري وتقدم الحياة الإنسانية، وهي أهداف سامية وطيبة تصب في مصلحة البشرية بل وهي مطلوبة وضرورية مع الأخذ بعين الاعتبار صدق النية وقصد الخير والمصلحة.
وقد أولى الإسلام أهمية كبرى لكل مايخدم البشرية ويساهم في تقدمها العلمي والحضاري والحقوقي الذي يؤدي بها للحياة الطيبة الهانئة، وحثّ على طلب العلم بل واعتبره واجبًا في بعض المقامات، كما ذمّ الكسل والبطالة التي تؤدي إلى تأخر المجتمعات وتحول بينها وبين عملية التكامل الإنساني. وبالتأمل في رسالة الإسلام السماوية وغاياتها، نستطيع الجزم والقطع أنه لايوجد أي دين أو توجه أو فكر يبث الأمل السامي في النفوس كالإسلام، بل ولا يمكن المقارنة بينه و بين غيره.. وتلقائياً يتبادرهذا السؤال إلى الذهن: مالذي يجعل آمال الدين الإسلامي أسمى من غيرها؟ وأساساً هل هُناك فرق؟ فكل العلوم والتقدم المعرفي هي نفسها كانت من المُسلم أو الكافر، خصوصًا و إننا نرى أن الغرب الكافر هو المُتقدم علميًا وتكنولوجيًا وبمسافات طويلة جدًا جدًا عن العالم الإسلامي في العصر الراهن!
كما قُلنا أن قيمة الأمل يرتبط بقيمة الهدف المقصود تحقيقه، ويمكن تبيين وجه سموّ الأمل الذي يبثه الإسلام عن غيره من خلال المقارنة بين نوعية وحقيقة أهداف الإسلام وبين أهداف الفكر الغربي والعلماني واللاديني..
أما الغرب فأهدافه ليست موّحدة وتختلف باختلاف الأفكار، وكل فكر له أهدافه الذي يحقق بها مصالحه ويصارع الآخرين لتحقيقها، فمثلا أهداف المذهب الماركسي قائمة على اعتبار الإنسان موجود مادي بحت وأن العلاقات الاجتماعية قائمة على الإنتاج والاستهلاك، وتمكين الشعب من تقاسم الثروات والانتفاع بها وكان ذلك هدفه النهائي المتمثل في المادة لاغير؛ إذ اعتبروا إن إشباع الحاجات المادية للإنسان هو تلك جنة الفردوس المنشودة، إضافة إلى الحرب على الأديان والإلهيات والحكم بالقوة والعنف، وما اعتبار الإنسان موجود مادي بحت إلا مصداق لقول الله عز وجل في القرآن الكريم {إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ ۖ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا} وكما يقول أمير الكلام (ع): "كالبهيمة المربوطة همّها علفها".
وقد اعتبر المذهب الرأسمالي أهدافه الأساسية العليا هي جمع المال وتمكين كل فرد مستثمر صاحب رأسمال من العمل الحر واكتناز الأموال من خلال الأعمال والاستثمارات من غير قيود، حتى لو كان ذلك يؤدي إلى الاحتكار وبروز الطبقية والفقر واستنزاف الخيرات المشتركة للشعوب، فالهدف هو المال فقط وفقط. هذا من ناحية اختلاف الأهداف والذي يؤدي إلى الصراعات فيما بينهم - أيّ المذاهب الغربية-، إضافة إلى أن رغم تقدم العلم عند الغرب إلا أننا نرى بوضوح افتقار مجتمعاته وأفراده للقيّم الإنسانية الأصيلة من قبيل التكافل الإجتماعي والترابط الأسري، ناهيك عن تفشّي الظلم والتشّرد والجرائم..الخ.
ولو نظرنا من ناحية نوعية الأهداف وقيمتها، فإن أهداف الغرب أهداف مادية ودنيوية بحتة، فبرغم أهمية وسموّ العلم والمعرفة والتقدم الذي لا اختلاف عليه، إلا إنها عند الغرب هي قيّم مرتبطة بالدنيا والمادة لا غير، ناهيك عن أن أغلب ذلك التقدم يُسخر لخدمة مصالح الأنظمة والقوى الاستكبارية لا لما يخدم الشعوب، وفي الحقيقة والواقع وبمقارنة هدف الوجود -من وجهة نظر إسلامية- فالتقدم العلمي وتحصيل العلوم التجريبية هي أهداف سامية ولكنها ليست أهدافًا نهائية، بل كما نستطيع أن نطلق عليها "أهدافًا تكتيكية"، أي أنها أهدافٌ مرحليّة و أنّ تحقيقها يؤدي إلى تحقيق الهدف النهائي، فإذا كان التقدم على جميع المستويات هو هدف عظيم، فإن هدف الوجود "الكمال الإنساني" هو الهدف الأعظم. ولا يمكن أن ننفي وجود الأمل عند الغرب وغير المسلمين، بل هم يمتلكون الأمل الكبير -خاصة في المجال العلمي- الذي يجعلهم يعكفون على تحصيل العلوم و الاكتشافات بمختلف جوانبها، إلا أنه يبقى أمل بدوافع محدودة مقارنة باللامحدود، ينتهي بانتهاء الدنيا، ويتوقف بتوقف الحياة.
أما الإسلام فأهدافه الوجودية واضحة ومحددة تماماً، الهدف هو حياة أبدية طيبة خالدة، رؤية الإسلام الوجودية هي رؤية أبدية لامحدودة، إن الإسلام يخلق في روح الإنسان أفقًا لامتناهي كلما تقدم وكلما عمل فلا نهاية لذلك، حتى لو انقضت الدنيا؟ نعم، فمن وجهة نظر الإسلام كل عمل وعلم بل وكل وجود الإنسان بأكلمه لا ينتهي وهو مستمر، وماعمِله في الدنيا تحصيله في تلك الحياة الأبدية الآخرة وكما قال الرسول الأكرم(ص): "الدنيا مزرعة الآخرة". أيضاً فالإسلام لم يُهمل الحياة الدنيا ويُقصِها، بل أن رؤيته الأخروية متوقفة على رؤيته الدنيوية، فهدف الرسالة الإسلامية على مستوى الأرض، إقامة المجتمع الربّاني والقائم على العدل والمساواة والخير والرحمة والتكافل والمحبة، المجتمع الذي تتحقق فيه الحياة الطيبة لكل فرد بلا استثناء ويكون مجتمعاً يحقق الكمال الإنساني في الدنيا والآخرة لا الدنيا فقط. وذلك ما سيتحقق بإذن الله تعالى على يد المنتظر الموعود قائم آل محمد (عجل الله فرجه الشريف).
نعم هذا الإسلام العظيم يطلق عنان الأمل للإنسان في شتى المجالات من العلم والعمل والإنجاز والمعرفة والتكامل، بل ويخلق أملاً أرقى وأجمل وأسمى من كل أمل، ويبشّره أن علمك وسعيّك وعملك لن ينتهي بانتهاء هذه الدنيا، وستحصل على جزيل النعم التي لا يمكنك حتى تصورها من نعم الحياة الخالدة، بل إنك أيها الإنسان موعودٌ في الدنيا بحياة طيبة في دولة الخير والعدل والرحمة والبركات، الدولة المهدوية العظمى التي سيتجلى فيها كل العلم والتقدم والتمدّن والتطور الذي مر على كل التاريخ، بل سيبلغ كل ذلك ذروته وكماله في تلك الدولة، ولكَ ان تكون رقماً ووجوداً في تلك الدولة بعلمك وعملك وإخلاصك وهمّتك العالية..
والسؤال في الختام: هل يضعف أمل إنسان عاقل يُبشًّر بمثل هذه البشارات والغايات الراقية !
أو هل يتخّلف أحد عن الإسلام بحجة أنه مُثبط للهمم والآمال ؟
وما سبب تخلف مسير الأمة الإسلامية على جميع المستويات إلا إهمالها لتعاليم الإسلام وجهلها بحقيقة الرسالة الإسلامية المحمدية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق