لأن الله يريد لنا الكمال
لخلق هذا الوجود غاية سامية عظيمة، لم يخلق الله عز وجل كل هذا الكون بلا غاية وهدف، وإذ جعل الله سبحانه الإنسان محور هذا الوجود، فتلك الغاية وضعت للإنسان بالدرجة الأولى والرئيسية، فهو المخلوق الذي نصّبه الله خليفة له على الأرض.
يخاطب الله سبحانه الإنسان في القرآن ويخبره بمصيره الحتمي: { يَا أَيُّهَا الْإِنسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَىٰ رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ } ، فهذه حياتنا ماهي إلا سير إليه عزّ وجل، سيرٌ إلى الكمال إذ هو الكمال المُطلق، بناءً على ذلك فإن غاية خلق الإنسان هي (التكامل اللامحدود) و بعبارة أخرى (التكامل الروحي بالتقرب إلى الله) - أيّ كلما تقرب الإنسان إلى الله ارتقى في درجات كماله.
ولكي لا يكون الحديث حديثاً عقائدياً، نتجه بالحديث للإشارة إلى الخلل الفكري عند الإنسان في موضوع غاية الوجود، وهو جهل الإنسان عن تلك الغاية والغفلة عنها، أيُعقل أن نعيش ونكبر ونخوض معترك الحياة إلى أن ينقضي العمر ولا ندري ما هدف وجودنا! الجهل بمثل هذا الأمر يعني ضياع وجود الإنسان، يعني عبثية الوجود، لذلك نرى اتجاه الحياة البشرية في الوقت الراهن إلى العبثية واللهو واللاهدفية، كل ذلك بسبب جهل الناس بهدف وجودها الحقيقي.
وقد أشرنا في مقال سابق إلى (نتائج عدم معرفة الإسلام)، وهنا نشير بتحديد أكثر إلى (عدم فهم جوهر تعاليم وأحكام الإسلام). إن الإسلام قدم لنا المشروع بشكل واضح، أشار للهدف (التكامل الروحي) وأعطانا الخطة المحكمة للوصول إليه، ولكن بسبب إهمالنا للإسلام وعدم معرفتنا به؛ جهلنا الهدف وانعكس ذلك الجهل على كل حياتنا وفكرنا وسلوكنا وعلى مستوى تحديد أهدافنا في الحياة، ومن نتائج هذا الجهل بروز مشكلة عدم فهم التعاليم والأحكام الإسلامية والاعتراض عليها وعدم تقبلها والنفور منها أيضاً، إن هدف الإسلام كله بقوانينه وتشريعاته وتعليماته تصب في ذلك الهدف الأساسي (التكامل اللامحدود) الذي يعني إيصال الإنسان للكمال المنشود، فهذه التعليمات والتشريعات أساس حكمتها تحصيل الثمرات الكمالية، وهي ثمرات دنيوية مباشرة وثمرات ونعم أخروية، ألا أن الثمرات الأخروية هي الأصل والجوهر، أما النعم الدنيوية فلا يمكن مقارنتها أبداً بالنعم الأخروية بأي شكل من الأشكال، لأن الأساس من هذه الحياة هو العمل المؤقت للوصول للحياة الآخرة، إلا أننا لا نستوعب ولانستشعر عظمة النعم الأخروية لأننا أعطينا الحياة الدنيا الاهتمام الأعظم وجعلناها هي الغاية الأساس، وغفلنا عن أن الحياة والنعم الأبدية هي الحياة الآخرة، لذلك نحن ننفر من تعاليم الإسلام ونعترض ونُشكل على أحكامه، وعندما نرى من تلك الأحكام والتعاليم ما لا يتوافق مع أهوائنا نبقى نبحث عن مخرج لها ونستنبط لأنفسنا " تحليل عقلاني " لإضعافه أو تغيير ماهيته، ما يلزمنا فهمه هو أن ثمرات هذه الأحكام لا تتعلق بالدرجة الأولى بالدنيا، فلا حاجة للبحث عن تبريرات تتعلق بالحكمة من تشريعها، فالكثير من التشريعات نجهل حكمتها ولا نستعشر ثمراتها في الدنيا، إلا أن اليقين هو أن ثمراتها أخروية وترتبط بشكل رئيسي بـ " عملية التكامل الروحي " .
والحاصل أننا لجهلنا بقانون أو فلسفة التكامل الروحي أو عدم فهمنا إياها، ننظر إلى كل أمر فقط من جانب كونه حلال أو حرام، جائز أو غير جائز، فالأعمال لدينا إما هذين الحكمين وما غير ذلك لا اعتبار له، وننظر إلى الآخرة على أنها جنة أو نار فقط ، هممُنا دانية وأهدافنا بسيطة فيكفي أن نعمل بالمقدار المحدود جداً الذي يدخلنا الجنة وينجينا من النار وكفى، والحقيقة هي أن الغاية أعظم من الجنة أصلاً، الغاية هي التكامل للتقرب الى الله، السير للكمال المُطلق الذي يعني أنه مهما تقربت ازدتت كمالاً لا حدود له مُطلقاً، فالجنة درجات والقرب الإلهي أيضا مقامات، غاية الأمر أننا أصحاب همم ضعيفة اكتفينا بالسعي للدرجات الأدنى من درجات الجنة، بل أقصى آمالنا وأهم أهدافنا أن لا ندخل النار وكفى، هذه نتائج غفلتنا عن طلب الكمال الأخروي، عزفنا عن الكمال اللامتناهي وجعلنا كل اهتمامنا للكمال الدنيوي المتناهي والذي سينتهي مع انتهاء حياتنا على الأرض.
ولنقرب الفكرة أكثر نطرح هذه الأمثلة لتبيان جوهر قاعدة التكامل في الإسلام، مثلاً تشريع الحجاب للمرأة -كتشريع واجب- هو بأصله كمال له ثمرات اجتماعية واضحة ومباشرة في الدنيا، كصون وحفظ المرأة وتحصينها وهو جانب من جوانب العفة والستر للمرأة، وحفظ المجتمع من تبعات سفورها، هذه الثمرة المباشرة لا تنفصل أبداً عن الثمرة الأساس وهي (التكامل الروحي)، غير أن ثمرة الكمال تظهر بشكل جوهري أعظم في الآخرة، ونظراً لأن الحجاب جانب من كمال العفة، فكلما ازدادت المرأة عفافاً كلما تكاملت وارتقت في درجات الكمال الروحي، فالتكامل هنا أمر و وجوب الحجاب أمر آخر، فمثلاً هناك من تكتفي بأدنى درجات الستر ولا يعد ذلك عملاً محرماً (كأن تلبس ملابس ساترة وجائزة شرعاً من غير أن تلبس العباءة)، وأخرى تسعى جاهدة لتعزيز سترها فلا تنزع عباءتها مهما كلف الأمر، في هذا المثال المرأتان لم ترتكبا الحرام وكلتاهما لباسهما في حدود الشرع، لكن هل كمال العفة والستر متساوي بينهما؟ قطعاً لا، المرأة الثانية سترها أكثر كمالاً، الفرق أن الثانية همّتها متعلقة بدرجة أعلى من الكمال، والأولى على العكس اكتفت بالجائز، كذلك لو أن فتاة لا مانع عندها من ظهور صورها الى الملأ عبر شبكات التواصل مثلا (مع افتراض كون ذلك جائز)، وأخرى لا ترضى ذلك حياءً وعفة، فبالتأكيد أن الفتاة الثانية حياءها وعفتها أكثر كمالاً، ولا يعني ذلك أن الفتاة الأولى ليست عفيفة أو قامت بعمل حرام، بل هو مجرد تفاوت في درجات كمال العفة بينهما، كمال إحداهما أرقى من الأخرى. مثال آخر، نظر الرجل لوجه المرأة بحد ذاته جائز، لو أن رجلًا نظر لوجه إمرأة وفق الحد الشرعي فهو لم يرتكب حراماً، أما رجل آخر يغضّ البصر تماماً عن المرأة قاصداً العمل بالورع - كأن ينظر للأرض إذا رأى امرأة – فهو بهذا يتكامل بالورع عبر غض البصر، هنا كلاهما لم يرتكبا الحرام، والسؤال إليك أنت أيها القارئ : من هو الأكثر كمالاً في الورع منهما؟
وهكذا هو جوهر قاعدة التكامل، وقس عليه جميع السلوكيات والأعمال التي تحث عليها التعاليم الإسلامية وروايات أهل البيت (ع) خصوصاً التي تعد أعمالاً وسلوكيات كمالية للروح ولا تتعلق بالحلال والحرام، لذلك علينا تغيير نظرتنا لتلك التعاليم والتوصيات، ونستوعب أن الأشخاص الذين نلقبهم في مجتمعنا بالـ "ملتزمين" أو دينيّين أو "المطاوعية" أو الذين يعتبرهم المجتمع "متشددين ومعقدين" - أنهم بأعمالهم وفكرهم هم طُلاب الكمال، هم متّبعين الفطرة الإنسانية التي لا تنفصل عن الدين، المُتصبغين بصبغة الكمال الإلهي المطلق {صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ} .
إذن، من يكتفي بالـ "جائز" فهذا شأنه، ومن يسعى للكمال فذلك شأنه هو أيضاً، كل إنسان حر باختيار طريقه، المهم أن لا نهاجم من يهتم لدينه ويسعى للكمال بالتزامه وحفاظه على قيَم الإسلام الكمالية، وأن لا نعتبر من يكتفي بالجائز فاسق.
أخيراً، إذا استوعبنا قاعدة " التكامل الروحي" في الإسلام، فإن نظرتنا لأنفسنا وللوجود ستتسع وتسمو، سيرقى فكرنا وسلوكنا واهتماماتنا وتطلعاتنا، لأننا سنشعر بأن هذه القاعدة هي المتناسبة مع عظمة خالقنا سبحانه و الأصلح لأن تكون غاية هذا الوجود، ومتوافقة مع فطرة السعي للكمال عند الإنسان، هل يعقل أن يكون قد خلق كل هذا الكون لأهداف هذه الدنيا المفعمة بالنقص والتعب والبلاء! ومع الإشارة إلى أن قاعدة التكامل مرتبطة بكافة السنن والقوانين الإلهية الكونية والاجتماعية ( كسنة البلاء مثلا)، وبعد أن يستوعب الإنسان هذه القاعدة؛ سيكون جواب سؤال (لماذا) حول أحكام الإسلام وتعاليمه وتوصياته واضحاً..
لماذا الصلاة؟ لماذا الصيام؟ لماذا الحجاب؟ لماذا الزكاة؟ لماذا أحكام القصاص؟ لماذا البلاء؟ لماذا المرض؟ لماذا الفقر؟ لماذا الألم؟ لماذا الإحسان؟ لماذا العدل؟ لماذا العفة؟ لماذا العبادة ؟ لماذا الوجود ؟ لماذا..؟ لماذا؟ .. لأن الله يريد لنا الكمال
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق