ملامح الهوية الإسلامية
تحدثنا
في مقالنا السابق عن أزمة الهوية التي تجتاح العالم في العصر الراهن، وكيف أن
هويات وثقافات المجتمعات تتلاشى بفعل الغزو الثقافي والفكري، ويكون أفرادها بلا
هوية وشخصية فكرية مستقلة، فيضيع إثر ذلك هدف الفرد ويضل طريق سير حياته بسبب عدم
وجود قاعدة فكرية ثابتة ومحكمة تكون بمثابة الخطة والبرنامج العملي للحياة.
ونظراً
لضعف أسس وقواعد المذاهب الفكرية والأديان المحرفة؛ من الطبيعي أن لا يكون
لأتباعها هوية واضحة محكمة ثابتة. لكن الغريب أن لا يكون لأتباع الإسلام هوية
وثقافة تشكل كيانهم كمجتمعات وأفراد، إذ أن هذا الدين دين إلهي لم يُحرف وحافظ على
أصوله وأعرافه على مدى أكثر من 14 قرناً، بل ووضع خطة شاملة تدخل في كل جوانب
الحياة بأدق تفاصيلها ونظم حياة الفرد والمجتمع، الذكر والأنثى، الكبير والصغير.
فتلك الأحكام الشرعية والعادات والتقاليد والأعراف الاجتماعية التي تحكم المجتمع
الإسلامي هي التي تكوّن هوية الفرد والمجتمع، فيُعرف بها الفرد أنه مُسلم أو
"إسلامي"، وكذلك المجتمع.
واللازم
علينا معرفته أن للهوية الإسلامية ملامح ترتبط بأصول وعقائد الدين، هذه الملامح هي
التي تميّز الفرد والمجتمع المسلم عن غيره في الجانب الفكري والعملي، فهي عبارة عن
انعكاس تلك العقائد على حياة الإنسان وفكره وتسير به نحو الكمال الإنساني. وفيما
يلي أهم تلك الملامح، خصائصها وأثرها على الفرد.
أولاً: الهوية التوحيدية.
التوحيد
هو أول وأساس وأهم العقائد الإسلامية، ولكن السؤال هو: ما أثر التوحيد على الإنسان
فكراً وعملاً ؟ نحن نعتقد بأن الله -جل وعلا- واحد.. ماذا بعد ذلك!
من
آثار التوحيد هو حقيقة أن الله واحد وجميع الخلق يعبدونه لا يعبدون غيره، ثم إن
عبادة الله وحده يعني أن حاكمية الله فوق الجميع، يعني أن جميع الخلق سواسية
أمامه، لا فرق بين غني ولا فقير، أسود أو أبيض، ولا يمتاز أحد على أحد مهما كان {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}. فهذه المساواة أمام الله هي قانون
أخروي ودنيوي يؤسس للعدالة والمساواة ونفي الطبقية والتمييز على العرق واللون
وغيرها. فعندما نقول أن هذا مجتمع توحيدي يعني أنه مجتمع عادل ليس به ظلم ولا
تمييز بشتى أنواعه، يتساوى فيه الجميع في الحقوق والواجبات وأمام القانون والنظام - وبشكل أخص أمام حكم الله- ، والإنسان الموحّد هو ذلك الفرد الفاضل المحترم لحقوق الآخرين أمام الله.
ومن
آثاره رفض حالات استعباد واستضعاف الإنسان بجميع أنواعها الاجتماعية
والمادية والمعنوية، كاستعباده من قبل إنسان مثله (كالسلاطين والمستكبرين)، أو من
قبل مادة ورغبة وشهوة تستضعف إنسانيته، أو من قبل ثقافة مضادة وفكر مخالف
(كالثقافات الغربية الآن). نعم فالتوحيد يعني لا أكون عبداً لغير الله، فلا أكون عبداً
للسلطان، ولا للأهواء والمادة والشهوة {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ}، ولا للغرب ودعاياته.. هذا يعني
التوحيد.
ثانياً: الهوية الإلهية
الإنسان
المسلم يعتقد أنه موجودٌ إلهي {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي} ، وكل الوجود وجود إلهي يسير وفق
النظم الإلهية قاصداً الغايات الإلهية المقدسة، هو خليفة الله على أرضه يلتزم
بمسؤوليات إلهية عظيمة على جميع المستويات، وهذا يعني أنه يسير في خطٍ تكاملي،
يسمو بإنسانيته، هممه عالية لا سقف لها، هممٌ سماوية راقية لا محدودة وليست همم
دانية محدودة، هدفه الكمال المطلق، يسير نحو الكمال بالحرية المعنوية التي منحه
الله إياها، لا الحرية الانحلالية التي تعبث بإنسانيته، يضفي على كل حياته لمسة
إلهية كمالية، في المعاملات والعلاقات والأخلاق، فأخلاقه إلهية تصيّره إنساناً
فاضلاً سامياً، يتكامل بأخلاقه وأفعاله وصفاته لأنها مظاهر الكمال المطلق -عز
وجل-. فمن يكون رحيماً فهو يتخلق برحمة الله، فعن الرسول الأكرم (ص): "تخلّقوا بأخلاق الله.." ،
ومن يكون عالماً فهو يأخذ من علم الله.. وهكذا. إلى جانب إن الإنسان الإلهي
-المسلم افتراضاً- يعتقد ويؤمن بأن هذا الوجود خُلق بالحق، ويسير إلى الحق ولن
يكون إلا ذلك، فنهاية الوجود مهما كان ستكون بإحقاق الحق الإلهي، فلا يصدر عن الله
(جل جلاله) إلا الحق والخير {وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ}، وهذا مايسمى بـ "الرؤية الكونية"، فهذه هي
الرؤية الكونية الإسلامية.
فالإسلام
يضع البرنامج المحكم الذي يصنع إنساناً فاضلاً يبني بدوره المجتمع الإلهي الفاضل
الذي لا شرور فيه ولا باطل. فالفرد المُسلم يتحلى بفضائل الأخلاق ويتقيد بقوانين
ذاتية تفرضه إنسانيته عليه قبل أن يتقيد بالقوانين الوضعية، فلا يأكل مال الآخرين
غصباً لأنه إنسانٌ إلهي صالح مُصلح، لا لأنه يخاف القانون والعقاب. وهذا ما يشدد على
أهميته الإسلام أن يبني إنسان الخير ومجتمع الخير، فتعليمات الإسلام الاجتماعية
بدرجة كبيرة من الحكمة والسمو، ومثال ذلك أحكام الصدقات والزكاة، والحث على قضاء
حوائج الآخرين ومساعدتهم، وإعانة المظلوم والفقير والمسكين واليتيم، والاهتمام
بالترابط الأسري والتكاتف الاجتماعي.. إلخ من التعاليم والتوصيات. كل تعاليم
الإسلام وجدت لبناء المجتمعات الفاضلة والتي تكوّن عالماً فاضل، عالم عدل وخير
وسلام.
ثالثاً: الهوية الولائية.
أخيراً،
فإن شيعة أهل البيت يتميزون بهوية أكثر خصوصية وعمق، فالارتباط بأهل بيت النبوة
(عليهم السلام)، أعطى الفرد والمجتمع الشيعي هوية خاصة ومتميزة، هذه الهوية كوّنها
الارتباط بهؤلاء الأطهار والذي لا يصدر عنهم إلا كل خير وعلم وحكمة، فحديثهم
وتعاليمهم وتوصياتهم وكل مايصدر عنهم - عليهم السلام - هو نور، هو مرجع فكري وعملي
للموالي، يتحلى بأخلاهم ويأخذ بسيرتهم، وهم القدوة والمثال البشري وتطبيق لمثال
الإنسان الإلهي خليفة الله في الأرض. فالهوية الولائية تتمثل في السير بخطهم
وفكرهم وعملهم، والأخذ بحديثهم، وإحياء أمرهم وذكرهم، طاعتهم واجتناب معصيتهم. "مطيعٌ
لكم، عارفٌ بحقكم، مُقرٌ بفضلكم.."
نعم..
الفرد الولائي يأخذ بتعاليم أئمته بدقة في كل تفاصيل حياته، هو التقي العابد،
العامل الرسالي العاشق للإسلام المفتخر به المتعلق بكل ما يرتبط بالإسلام وأهل
البيت (المسجد والمأتم والمنبر والموكب، العلماء والأولياء والشهداء..)، هو الثوري
الفدائي المجاهد، المتعلم الواعي العارف بدينه، أخيراً هو الورع المُنتظِر لأنه يأخذ بكلام إمامه "
منتظرٌ لأمركم، مرتقبٌ لدولتكم، آخذٌ بقولكم عاملٌ بأمركم" ، إذ يدعو
أمير المؤمنين ويقول (عليه السلام): "..أعينوني بورع واجتهاد" ،
ويقول مولانا الصادق (عليه السلام): "من سرّه أن يكون من أصحاب القائم
فلينتظر، وليعمل بالورع ومحاسن الأخلاق.."
فالمطلوب
منا السعي لأن نكون موحّدين وإلهيّين وولائيّين حقيقيّين لتكون هويتنا هوية
إسلامية حقيقية، الفتى يقتدي بساداته النبي آل بيته (عليهم الصلاة والسلام) فيكون باطنه وفكره
إسلامي وظاهره عمله ومظهره إسلامي، والفتاة تقتدي بمولاتها سيدة نساء العالمين
(عليها السلام) بعلمها وإيمانها وطهارتها، بعفّتها وسترها وحيائها، بعبائتها المقدسة.
هذه هوية الإسلام والتشيع ثابتة منذ 1400 عام، فهل نثبت عليها ؟ أو ندمرها بابتعادنا عن خط الإسلام واتباعنا للغرب والعلمانية والليبرالية الفكرية والانفتاح والتحرر؟
هذه هوية الإسلام والتشيع ثابتة منذ 1400 عام، فهل نثبت عليها ؟ أو ندمرها بابتعادنا عن خط الإسلام واتباعنا للغرب والعلمانية والليبرالية الفكرية والانفتاح والتحرر؟
فلننظر
لأنفسنا نظرة صدق.. هل هويتنا إسلامية ؟
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق