بناء الهويّة الإسلاميّة
يتعرّض الإنسان منذ بداية
نشأته إلى مختلف العوامل التي تساهم في تشكيل أفكار وإدراكات تُصنَع على ضوئها
عقليَّته، هذه الأفكار والإدراكات تنعكس كثقافة فكريَّة وسلوكٍ عمليٍّ، مع رسوخها
نفسيًّا وعقليًّا في الإنسان، ومجموع الأفكار والأفعال وسمات الإنسان التي تترجم
تلك الأفكار وتعكس شخصيَّته ، تسمّى "الهُويَّة". ومن المعروف أنَّ مُصطلح (الهُويَّة) مُشتقُّ
من (هو) -مع الإشارة إلى أنها هُوية (بالضّمّ) ، وليست هَويّة ( بالفتح) كما
هو شائع استخدامها، فالهويّة هي الإشارة الى ذلك الفرد متميّزًا بسماته الفكريّة
والنّفسيّة والسّلوكيّة، وهكذا، وبشكل أوسع ، هويّة المجتمع. فلو قلنا: "المجتمع
الإسلاميّ" ، أيّ (هو) ذاك المجتمع الذي يتّسم بالسّمات الإسلاميّة
المُمَيّزة،وتُطبَّق فيه شريعة الإسلام بأحكامها وتعاليمها العامّة، وتهيمن فيه
على العَلاقات والمعاملات وغيرها من تعاليم الإسلام. ولو قلنا:"المجتمع
الماركسيّ"،أيّ (هو) ذلك المجتمع الذي يعيش أفراده نظريّة "كارل
ماركس" الفلسفيّة. أمّا المجتمع العلمانيّ، فـ (هو) المجتمع الذي
يكون فيه الدّين منفصلًا عن كل جوانب الإنسان والمجتمع، ويبقى مجرّد شريعةٍ
تعبّديَّةٍ. ولو قلنا "الهويّة الخليجيّة العربيّة" ؟
إنّها تلك المجتمعات المشتركة في عادات وتقاليد ولها خصوصيّة، وتميُّز عن بقيّة
المجتمعات. إذن، الهوية هي مجموعة خصائص وسمات تميّز الفرد أو المجتمع بمميّزات
خاصّة،وكلَّما زالت سمة مميّزة معيّنة؛ ضعفت ملامح الهويّة، فرديّة كانت أو
مجتمعية.
هذه الخصائص والسّمات والأفكار
لا تنشأ من عدم، بل لا بدّ أن يكون هناك مرجع ومصدر لها، كأن يكون المرجع قوميًّا
وثقافيًّا، كالهويّة العربيّة أو الخليجيّة، أو يكون مرجعًا فكريًّا أو
فلسفيًّا، كالهويّة الشّيوعيّة ،أو العلمانيّة واللّيبراليّة، أو أن يكون مرجعًا دينيًّا
، كالهويّة الإسلاميّة وغيرها، فالأديان لها دور كبير جدًّا في تشكيل الهويّات
الفرديّة والاجتماعيّة على مرّ الأزمنة.
ولو نظرنا إلى الإسلام
وفلسفته، سنراه المرجع الأكثر شموليّة من بين كلِّ المراجع في تركيبة الهويّة،
لأنّه مرجعٌ دينيُّ ،فكريُّ، وفلسفيُّ، يدخل في كّل تفاصيل حياة الإنسان ويقودها
ويوجّهها، وذلك في ضوء علاقته بالخالق، وعلاقته بنفسه، وعلاقته بالآخرين
(المجتمع)، وحتى علاقته بالكون ومافيه. فالدّين الإسلاميّ ،على سبيل المثال فهو
ليس كالماركسيّة ،التي يتمحور دورها الرّئيسيُّ في تنظير الجانب الاقتصادي للمجتمع، فلا
شأن لها في باقي جوانب الحياة.
ثمّ إنَّ هويّة المجتمع تتشكّل
من تماثل وتطابق الأفراد في هويّاتهم أي تلك المميّزات الخاصّة ، فخليط هؤلاء
الأفراد -بهويّتهم الواحدة- ،يمتزج بتناسق، فتتشكّل بذلك هويّة
المجتمع، التي تمثّل الصورة الأكبر، والتّطبيق الأوسع لمجموع الهويّات الفرديّة،
ثمّ ترتقي تلك الصّورة أكثر فأكثر فتكوّن هويّة الأُمة، لأنّ المجتمع هو ما يُنظَر
إليه بلحاظ العلاقات والمعاملات الدّاخليّة، والأُمّة أعمّ من ذلك. نتستنج إذن،
أنّ الدّور الأوّل، هو بناء هويّة الفرد ،وهيمنة الخصائص المميّزة على أكبر عدد من
الأفراد ،لتتشكّل على ضوئها هويّة المجتمع والأمّة، وهذا ما سنبحث فيه بشكل رئيسي
بعد هذه المقدّمة التّمهيديّة.
إنّ عمليّة بناء الهُويّة لها
جانبان: الجانب الفرديّ، والذي يعمل الفرد فيه مع نفسه ويبني هويّته
باختياره الشّخصيّ للأفكار والأوصاف التي تشكّل هويّته. والجانب الاجتماعيّ،والذي
يكون فيه التّأثّر والتّأثير مُتبادَل بين الأفراد ،أي ، تأثّر كلّ فرد بالآخر،
وتأثير كل فرد في الآخر، وتأثير الجماعة على الفرد والعكس، وتساهم البيئة والمجتمع
في بناء الفرد من خلال تفاعله معها، كتأثير بيئة الأسرة على الأبناء،
وتأثير الصّديق على صديقه، وتأثير بيئة القرية على الأفراد، أو بشكل أوسع من ذلك ،
تأثير البيئة المدرسيّة والجامعيّة على الطّالب، وكذلك تفاعل المجتمع ككلّ داخل
الوطن الواحد ،والتّأثّر والتّأثير الجمعيّ في الأفكار والسمات والسلوكيّات،
وفاعليّة ودور كلّ جانبٍ كما سيأتي.
إنّ طبيعة عالم الدُّنيا هي
طبيعة تزاحم، ويتّضح ذلك في مجال الرّغبات والميول، بمعنى أنّ كلّ رغبة أو ميل
يميل إليه الإنسان ،يزاحمه ميل آخر، فلابدّ أن يختار الإنسان تلبية واحد دون
الآخر، ويحدّد ذلك بترجيحه لما يميل إليه بشكل أشدّ ،أو ما ترجّحه المصلحة، كمن هو جائع
مُتعَب ،يحتاج للأكل والنوم في وقتٍ واحد، هنا يوجد تزاحم بين الجوع والحاجة
للنّوم، فمؤكّد أنّه لا يمكنك الأكل والنّوم في ذات الوقت ، ولكن، يمكن أن تأكل
أوّلًا ومن ثمّ تنام، أو تختار أن تغطّ في النّوم متنازلًا عن رغبتك في
الطّعام في الوقت الحالي.
هذا التّزاحم تزاحمٌ في الجانب
الماديّ، وهو يبرز بشكل أوضح، وغالبًا ما يكون الإنسان مدركًا وواعيًا
لما يختاره . ولكنّ التّزاحم في الجانب الفكريّ والمعنويّ هو الأكثر تعقيدًا
والأضعف وضوحًا وربّما في كثير من الأحيان ، لا يعي الإنسان حقيقة التّزاحم في
فكره.
وتوضيح ذلك، كما قلنا إنّ
الهويّة هي مجموع تلك السّمات والأوصاف المميّزة، وتتكوّن هذه السّمات بالمعرفة
والتّلقّي، وتترسّخ باستمرار التّلقي مع التّلقين، وهو ما تتلقّاه إمّا من محيط
أسرتك بدايةً، أو من بيئة قريتك ومدرستك ، أي تلك البيئات التي تختار
أنت التواجد فيها، ولأنّنا نبحث في تفاصيل الهويّة الإسلاميّة ، سنرى كيف يمكن أن
نبني هويّتنا الإسلاميّة أو أن نسحقها باختيارنا.
ينشأ الإنسان بدايةً بين
أسرته، كلّما كانت المفاهيم والسمات الإسلاميّة مترسّخة وواضحة في بيئة الأسرة
كمًّا وكيفًا، كلّما رُسمت تلك المفاهيم بوضوح في ذهن الأبناء، ثم يكون التفاعل بين
الوالدين والأبناء ،والنتيجة تكون معاكسةً في الأسرة التي تفتقر إلى المفاهيم
والسمات الإسلاميّة. والخطوة التالية بعد ترسيخ المفاهيم الإسلاميّة تتمثّل في التّلقين
المستمرّ لتثبت تلك الأوصاف في أذهان الأبناء، من خلال تبادل التّأثير
والتّأثّر ، قولًا وفعلًا ، ونصحًا ، ورفضًا للأفكار الدّخيلة وتعزيزًا للأفكار
الأصيلة.
إنّ الإنسان العصريّ يتلقّى
يوميًّا آلافًا ، بل ربما ملايينًا من الرّسائل الاتّصاليّة
(الإعلامية)، من مختلف القنوات الاتّصاليّة ،كالتّلفاز ،ووسائل الإعلام الحديث
اللامحدود (التّواصل الاجتماعي)، وشبكات الأفلام على الانترنت، وغيرها. وهُنا
تتّضح أكثر طبيعة التّزاحم التي أشرنا إليها، فكلّ تلك الأفكار –بما فيها
المخالِفة - التي تصلك من مختلف الوسائل، تزاحم أفكارك الأصيلة، لتبدأ
عندها المعركة اللّاواعية بين الأفكار بداخلك، بين الأفكار الأصيلة ،والأفكار
الدّخيلة، فتسيطر الأفكار الأشد رسوخًا كيفاً والأكثر حضوراً كماً وتُزيح الأفكار
الأخرى. مثال ذلك: المُسلم صاحب الفكر الغربيّ، والانحلال الأخلاقيّ، أي الذي
انمسخت هويّته الإسلاميّة وصارت غربيّة، وانحرف فكريًّا لأنّه لم يتعرّض للأفكار
الإسلاميّة بشكل كافٍ، بل على العكس من ذلك فقد تعرّض عقله بكثرة إلى الأفكار
الغربيّة المضادّة ، من خلال ما يشاهده من الإعلام الغربيّ مثلًا. فنجد أنّ أفكاره
الغربيّة أزاحت الأفكار الإسلاميّة نتيجة لسطحيّتها كيفًا وقلّتها كمًّا، فلا يمكن
أن تتواجد فكرتان متضادّتان في عقليةٍ واحدة، بل لابدّ أن تُزيح إحداهما الأخرى،
وغالبًا ما يكون ذلك بلا وعيٍ ولا إدراك، فتتبدّل حينها الأفكار،
وتنحرف المبادئ والقيم على ضوء ذلك الانحراف.
وهكذا ، كلّ واحد منّا بتعرّضه
للأفكار الدّخيلة المضادّة ،يتلقّى أفكارًا ومفاهيم تصارع أفكاره الأصيلة أو
السّابقة، فإمّا أن ينتصر ببقاء فكره الأصيل، أو تنتصر عليه تلك الأفكار الدّخيلة،
وإما أن تؤثر فيه ولو بشكلٍ نسبي.
وهُنا تكمن الخطورة التي أشرنا
إليها في أنّ العقل ربما لا يعي أنّ الرّسائل الاتّصالية -التي يتلقّاها من
الإعلام والأفكار من البيئة المحيطة- تُزاحم الأفكار الأخرى وتزيحها، ثم بعد ذلك
نتساءل : كيف وصل هذا الشخص إلى هذا المستوى من الانحراف الفكري واللّاتديّن!
السبب هو أنّ الأفكار الإسلاميّة ربّما كانت قليلة وسطحيّة لديه، فلم تترسّخ في
كيانه النّفسيّ، فأزاحت الأفكارُ الدّخيلةُ هذه الأفكار الأصيلة، والنّتيجة ،
تشكُّل الهويّة وفق تلك الأفكار الجديدة.
ثم إنّ التّربية والتّنشئة
أوسع من إطار الأسرة، فالأسرة هي جزء من بيئة الفرد وليست كلّها، وللمجتمع أيضًا دور
في الحقيقة أوسع وأشد تأثيراً في بناء الفرد و بناء هويّته، لأنّه سيعيش في بيئات
هذا المجتمع باختلافاتها، فبعد أن يخرج الفرد من محيط أسرته ،سيخرج لعالم يتلقّى
فيه ملايين المفاهيم والأفكار التي هي قاعدة السلوكيات العملية. إذن يتطلب في
المرحلة التالية بناء الهويّة الإسلاميّة -أي خارج بيئة الأسرة- يتطلب معرفة
وتحديد واختيار البيئة التي يلِجُها ويلازمها، كبيئة المأتم والمسجد والشّعائر
الدينية، وبيئة الأصدقاء والزّملاء. ويتطلّب أيضًا تحديدَ الرّسائل
الاتّصالية التي يريد أن يتلقّاها، كتحديد ما أريد أنا متابعته مثلًا على وسائل
التّواصل الاجتماعيّ، و تحديد نوعيّة الأفلام والمسلسلات، و متابعة الحسابات
المناسبة، والابتعاد عن مشاهير الانحلال الأخلاقيّ ، وبعبارة أعمّ، تأطير البيئة
الحياتيّة والإعلاميّة التي أعيش داخلها بإطارٍ محدّدٍ و واضح، وهو إطار الفكر
والثّقافة الإسلاميّة.
شتّان ما بين مَن حياته المأتم
والمسجد والشعائر الحسينية، وبين من حياته اللَّهو والمقاهي ،وأماكن الفساد
والانحراف، وشتّان ما بين من يعيش يومه مُتابعاً لمشاهير الغفلة وإعلام الغرب
وليبراليّته، وبين من يعيش البحث العلميّ والمعرفيّ والدينيّ، ويسعى لتحصين فكره
والاستزادة المعرفيّة والعقائديّة والفكريّة الإسلاميّة، وهذا لا يكون إلا بتأطير
أسلوب الحياة بإطار يجعلني في أحضان الفكر الإسلاميّ، بعيد عن منابع الشّبهات
والأفكار الدّخيلة والتفاعل معها. لذا فإنّ ارتياد المحافل الدّينيّة والمداومة
على حضور المساجد والمآتم، والارتباط برموز الإسلام يعزّز الأفكار والمفاهيم
الإسلاميّة في العقل والقلب. بناء الهويّة يبدأ من ارتباطك بالإسلام نفسه،
بالارتباط بأئمّة الإسلام عليهم السّلام، بمعارف ومفاهيم وثقافة الإسلام، بروحيّة
الإسلام التي تأخذها من بيئة الإسلام ورموزه، فلا يمكن أن تبني إنسانًا إسلاميًّا
وهو يعيش بمعزل عن بيئة المجتمع الدّينيّ، أو لا يرى في الدّين إلا علاقته بخالقه
فقط، فالهويّة الإسلاميّة تعني أن يسري الإسلام في عروق المسلم ،ويشكّل أسلوب
حياته ويعيش الإسلام بكلّ كيانه ووجوده، بروحه وجسمه، بعاطفته وعقله، أن يرى
الإسلام هو الطّريق وهو النّجاة وهو الحياة.
والحاصل أنّ تربية الإنسان
والمجتمع وتشكيله، لا تتمّ إلا بالهيمنة عليه من كلّ الجوانب، فإذا ما أردنا تشكيل
مجتمع إسلاميّ بأفراده الإسلامييّن، لا بدّ من اتّخاذ الإسلام كمرجعٍ فكريٍّ ،
ودستورٍ ثابت يهيمن على الفرد والمجتمع بكلّ تفاصيله، وهذا المرجع هو ما عنيناه
بالإطار الذي يؤطّر الأفكار والسلوك، أي أن أستمدّ أفكاري وثقافتي وسلوكي وأسلوب
حياتي كلّه من روح الإسلام.
ولا توجد أيُّ أطروحة في
العالم الإنساني قادرة على الهيمنة على الإنسان وتربيته كالإسلام ، باعتباره
أطروحةً نظريّةً أو عمليّة على مستوى التّطبيق، فانظر إلى العظماء الذين صنعهم
الإسلام بقيادة المربّي الأجدر للبشريّة ،الرّسولّ الأكرم (صلّى الله عليه وعلى
آله) ،أو ألقِ نظرة على أصحاب أمير المؤمنين (عليه السّلام) في سموّهم
وإنسانيّتهم، وانظر إلى المجتمع الإنسانيّ الرّاقي الذي أسّسه الرّسول (صلّى الله
عليه وعلى آله) ،والذي للأسف لم تحافظ عليه أمّة الإسلام، وإلى يومنا هذا ،لم ولن
تستطيع أن تأتي بمثله بسبب إهمالها لإسلامها وتمييعه،فكيف يكون المُسلم مُسلمًا
بحقّ وهو لا يرى في الإسلام قوّة وجدارةً لتوجيه حياته وتشكيل أفكاره وبناء هويّته
؟ ، أم هل يا تُرى تؤخَذ الثّقافة الإسلاميّة من ارتداد المقاهي
المشبوهة؟ ، أو من المسلسلات الغربيّة وسمومها؟ ، أو الإعلام المنفتح على النّطيحة
والمترديّة وصُنّاع المحتوى المُبتذَل على (اليوتيوب) ، ومشاهير (سناب شات)؟ ، أو
من البيئات اللادينيّة المنفتحة ؟ ، إنَّ كلّ ما تُسلّمه سمعك وعقلك
،سيؤثّر في أفكارك وثقافتك ويزاحم أفكارك الأصيلة، لا سيّما إذا كانت تلك أفكار
مرتبطة بالأهواء النفسيّة. فالأفكار الإسلاميّة تؤخذ من مصادرها، من بيئة الإسلام
العلميّة والفكريّة: القُرآن ،والعترة المُحمّديّة (عليهم السّلام)، ومن بيئة
الإسلام الاجتماعيّة: المساجد والمآتم والمحافل الدينيّة وعلماء ومراجع الإسلام،
الذين يبيّنون لنا معارف الإسلام، وإن قلنا لماذا يجب أن نتّخذ من الإسلام هويّة
ومرجع، فإنّ الإجابة هي كما بيّنا سابقًا، أنَّ الإسلام هو الخطّة
الإلهيّة الحكيمة المُعدَّة للأخذ بيد الإنسان لغايته وسعادته، وثقافة وفكر
الإسلام ترتبط بعقائد الإسلام وأصوله ورؤيته الكونيّة ،وفلسفته الوجوديّة ،وتعريفه
للإنسان والحياة والسّعادة وغيرها من المفاهيم. فهويّة الإسلام لا تعني الالتزام
بأحكامه كدين وعبادة فقط، بل هي هويّة تصنع الإنسان بالمعنى الحقيقيّ
للإنسانيّة، تصنع الإنسان الإلهيّ، خليفة الله في الأرض، الإنسان
المُتألّه الربّاني! هذا هو جوهر الهويّة الإسلاميّة.
وبما أنّ الهويّة هي مجموع
الأفكار والسّمات المميّزة، فإنّ كلّ ميزة وسمة إسلاميّة ،فكريّة كانت أو عمليّة،
تزول من الفرد المسلم، يزول معها جزء من الهويّة الإسلاميّة، وهكذا ،إلى أن يفقدها
تمامًا ، وينسلخ منها ويكون مُسلمَ الّديانة فقط، لا مُسلم الهويّة، ثم إنَّ أيّ
ارتباط مع الإسلام يبقى عند هذا الفرد وعند هذا المجتمع التي لا وجود للأفكار
والسّمات الإسلاميّة في كيانه؟ مثل هذا الفرد لا يرى أيّ حاجة له في الّدين، ولا
هو يمثّله لكي يتّسم بسماته، بل يصل إلى مرحلة يرفضه فيها ، ويرفض
أفكاره ويحاربها، لأنّه لا يرى في الإسلام ما يجذبه، من تجمّع دينيّ و
شعائر دينيّة ، ولا يستسيغ الكلام الدينيّ، ويكون مسلمًا مُواليًا
بالاسم فقط، ليس لديه أدنى ارتباط بالإمام المعصوم، أو إن ارتباطه
ارتباطًا ظاهريًّا وعُرفيًّا تقليديًّا ليس إلّا، مُحبٌ للإمام نعم ، لكنّه
علمانيّ ، ليبراليّ، و غربيّ الفكر، يحارب أهداف الإمام
عليه السلام عمليًّا ، ولا ترى فيه سمات وأفكار وسلوك شيعة أهل البيت (عليهم
السّلام) ،تمكّنت منه الأفكار الدّخيلة ،واستغنى عن كلّ هويّته، واستبدلها
بالأفكار الغربيّة الهابطة، أو على الأقل أنّه صار شخصًا خاوي الفكر بلا هويّة
تُشكّل شخصيته وتُوجّه حياته،كلّ ذلك لأنّه لم يعرف حقيقة الإسلام، لأنّه لم يرتبط
روحيًّا وفكريًّا بالإسلام، لم يذُق عزّة الإسلام، ولم يستشعر قوّة الإسلام
الفكريّة والعلميّة والإنسانيّة، أضاع نفسه بالابتعاد عن الإسلام، وبيئة الإسلام
،وأفكار الإسلام.
وبانعدام الهويّة الإسلاميّة
الفرديّة، تنعدم الهويّة الاجتماعيّة للإسلام تِباعًا، فمثلًا ، يتميّز المجتمع
الإسلاميّ بعفّة نسائه وسترهنّ، فكلّما انحسرت معالم العفّة والسّتر وتضاءلت فكرة
العباءة الإسلاميّة ولبسها،انحسر جزء من هويّة الإسلام، وكلّما تسافلت الأخلاقيّات
السّلوكيّة في بيئة المجتمع الإسلامي، انمحى جزء من هويتّه كذلك، وكلّما كان
الشّباب غربيًّا بمظهره، مُنحرفًا بسلوكه، وبفكره، ومنفتحًا بلا حدودٍ
أخلاقيّة، انمحى جزء من هويّة المجتمع الإسلاميّ، كلما تفشّى الانحراف والعلاقات
غير الشّرعيّة في المجتمع بلا أيِّ استنكار قلبي، تهتّكت الهوية
الإسلامية الطاهرة، وحتى حضورك في ساحات وسائل التّواصل الاجتماعيّ، يمكن أن يكون
حضورًا بهويّة إسلاميّة، بثقافةٍ وبفكرٍ إسلاميّ، بسلوكٍ واستخدام مُتّزن ،يتوافق
مع الثّقافة والأخلاق الإسلاميّة، أو يمكنك أن تكون مُهرِّجًا، حضور لغو وجهل
ولاوعيّ واتزّان ، حضور خواء وهراء، وحضور معصيّة وتحرّر هابط.
وهكذا كلّما فقد الفرد
الإسلاميّ سمة إسلاميّة، فقد جزء من الهويّة، وكما هو واضح أمامنا ،هناك الكثير من
مظاهر الانحراف السلوكيّ والأخلاقيّ والفكريّ في أفراد الإسلام ومجتمعاته.. فماذا
سيبقى من الإسلام؟
ويمكننا القول إنّ
الانسلاخ من الهويّة الإسلاميّة ،يعني لبس هويّة الجاهليّة، لأنّ كلّ ما عدا
الإسلام ،جاهليّة، وكما يقول مفكّر الإسلام العظيم، الشّهيد ،الصّدر الأول (رحمه
الله): "ليست الجاهليّة مرحلة تاريخيّة قد انتهى أوانها، بل هي حالة
اجتماعيّة يمكن أن تتجدّد كلّما توّفّرت ظروفها، لأنّ حقيقة الجاهليّة: الانحراف
عن شريعة الله وهدى الأنبياء والحُكم وفق الهوى .." . ولعمري ما جوهر الأفكار
اللاإسلاميّة ، إلا الانحراف ورفض ومُبارزة شريعة الله وهُدى الأنبياء ونور الفطرة
الإلهية، يكفي أن ترى حجم الانحراف الفكريّ الآن، ورفض الأحكام
الإسلاميّة والتّشكيك في مسائل من قبيل الحجاب ،وحقوق المرأة، والمساواة، لترى مدى
الانحراف الفكري في عقول أبناء الإسلام، أوليست "الحركة
النسويّة" بأفكارها الغربية المنحرفة تُبارز أحكام وثقافة الإسلام فكريًّا
وعمليًّا ، ألا نرى الكثير من شباب وشابات المُسلمين يتّخذون مثل هذه
الأفكار المُضادّة لدينهم؟
إذن،الهويّة الإسلاميّة هي
مجموعة السّمات الفكريّة والسّلوكيّة المأخوذة من روح الإسلام ومنهجيّته، والتي
تُميّز الفرد فيُعرَف أنّهُ إنسانٌ إسلاميّ، وتُميّز المُجتمع فيُعرَف أنّه
مُجتمعٌ إسلاميّ، وبشكل أكبر وأوسع ، أمّة إسلاميّة بحضورها الفاعل والرّاسخ
بالفكر ، والرّوح المُحمّديّة {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ}، لا
كأمّة الإسلام الظّاهريّة ، كما هو الحال في هذا الزّمان،مع أهمية أن تكون الهويّة
كيانًا ممتزجًا بروح الإنسان ،بإيمانٍ واقتناعٍ باطنيّ، لا الاكتفاء بظاهريّتها
وسطحيّتها.
ولهذا ، فإن تكليفنا بناء
هويّتنا الإسلاميّة، بتدعيمها فكريًّا ، وتأطير حياتنا وأفعالنا في
إطار الإسلام، كلّ شخص منّا مسؤول عن بناء نفسه، والمساهمة في بناء مَن حوله، من
أخ وقريب وصديق، لكي نحافظ على ما بقي من هويّة الإسلام، تمهيدًا للمجتمع
الإسلاميّ الإلهّي العالميّ المُرتقَب بقيادة مُنجي البشريّة -عجّل الله فرجه
الشّريف- بخطّة الإسلام.
بقدر ارتباطك بقرآن
الإسلام وأئمّة الإسلام (عليهم السلام)، ببيئة وأجواء الإسلام، بعلماء ورموز الإسلام،
بقدر التزامك بأحكام وأفكار وثقافة الإسلام، بقدر محافظتك على مظهرك المُتزّن،
بقدر التزامكِ واعتزازكِ بالعباءة الشّرعيّة، بقدر الاستزادة المعرفيّة
والعقائديّة من نور الإسلام، بقدر افتخارك وتعظيمك والتشّرف بإسلاميّتك ، أنتَ
تبني هويّتك الإسلامية، هوّية سيّد البشرّية (صلّى الله عليه وعلى آله) ،هويّة ذلك
النّبأ العظيم الذي هُم فيه مُختلفون، هويّة آل بيت النّبوّة (عليهم السلام)،هويّة
سلمان ومقداد وأبي ذرّ وعمّار.. .
إنّ الهويّة الإسلاميّة هي
الهويّة الحقيقيّة الفطرية لكلّ البشريّة، وهي الهويّة التي أرادها الله لهذا
العالم، كلّ الهويّات هي وضعٌ تراكميّ للخبرة البشريّة، تُبنى وفق الأهواء
،ومحدوديّة العقل والفكر البشري، فهويّةٌ قوميّةٌ، وهويّةٌ وطنيّةٌ، وهويّةٌ
عرقيّةٌ، وهويّةٌ فلسفيٌّة، إلّا الهويّة الإسلاميّة،فهي الهويّة التي أراد الله
أن تجتمع عليها كلّ البشريّة بلا استثناء، الهويّة التي بعث لأجلها اللهُ آلاف
الأنبياء منذ وجود آدم عليه السّلام، وبعث ذلك الرّسول العظيم {للعالمين} كل
العالمين، بلا تحديد عرق أو قوم أو لون،هي الهويّة التي أساسها خلافة الله
وعبوديّته، الهويّة التي هي حقيقة الإنسانيّة، والمنعكسة من غاية وجوده السّاميّة،
الغاية الإلهيّة،السّعادة الأبديّة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق